للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان المراد بمفاتح الغيب]

ولم يذكر الله في هذه الآية مفاتح الغيب، ولكن السنة فسرت القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عمر -: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤]).

فنقول: إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله، ولا يعطى لأحد، أما غير ذلك من الغيب فيمكن أن يطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده، قال الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:٢٦ - ٢٧].

فقد يطلع الله بعض عباده على بعض غيبه، ولكن مفاتح الغيب اختص الله جل وعلا بها، فلا يطلع عليها أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه.

وبناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات علم الساعة، وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة، فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الساعة؟ فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي علمي وعلمك فيها سواء.

والله يقول: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:١٨٧].

بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ) فإسرافيل لا يعلم متى ينفخ، فمن باب أولى ألا يعلم الناس ذلك، فالساعة أعظم الغيبيات.

يقول تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:٣٤].

وإنزال المطر لا يعلم تحديد وقته إلا الله، أما ما تراه من إرهاصات فهو مقدمات تصيب وتخطئ، ولا يجزم بها أحد، وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول المطر، فقال: غداً سيكون مطر، فإنه يكفر؛ لأنه خالف صريح القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:٣٤].

وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:٣٤] (ما) هنا موصولة تدل على العموم، أي: يعلم ما في الأرحام، فإن كان ما في الرحم سقطا سينزل، أو سيتم خلقه فإنه يعلمه، ويعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا، ويعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر، في أمور شتى تتعلق به، ويعلم أنه سيكون ذكراً أو أنثى، وغير ذلك مما يتعلق به ولا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى.

يقول تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:٣٤].

إن هناك فرقاً بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل، فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام، وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، ولكن هل يحصل هذا العمل الذي يسمى في اللغة كسبا؟! إن هذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات.

ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤] وفي المسند أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها.

ومن جهل المكان فمن باب أولى أن يجهل الزمان.

والمقصود من هذا كله إجمالا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>