على أن القبائل العربية في جملتها قد صارت قبيل الإسلام إلى حال من النمو والقلق تريد التجمع والاندفاع دون الفوضى التي كان ينشدها شعراء الصعاليك بثورتهم على الفروسية وأوضاع المجتمع القبلي. ذلك بأن من القبائل ما أثري وتزايد عدده كقريش وبني حنيفة، ومنها ما تتابعت رياساته في بيوت جعلت تتطلع إلى السلطان كبني كنده وبني شيبان. ومثل هذا النمو لم يكن ليسمح بتغلب دعوة الفوضى، ولم يكن ليلقي بالاً إلى شعراء الصعاليك إلا على سبيل الاستظراف. ولعله لم يكن من القبائل ما كان يتجاوب حقًا مع قيم الصعلكة إلا هذيل لإيغالها في التبدي وشدة فقرها .. وشعر هذيل في جملته شديد الشبه بأشعار الصعاليك.
وإذ قد كانت الصعلكة، وهي كما قدمناه ثورة على الفروسية والقبلية، مقضيًا عليها أن تكون مذهب القلة النادرة، والشذاذ من الأفراد، فإن الشاعر العربي آثر أن ينزل عن مكان الصدارة المرتبط مع الفروسية، إلى مكان دونه كيما يظل محتفظًا لنفسه بمقدار كبير من حريتها ويظل مع ذلك صاحب الكلمة المسموعة في المجتمع. فآثر من أجل ذلك أن يكون فارسًا بلسانه، ساحرًا ببيانه. وجعل من هذا الاتجاه الجديد سببًا إلى المكسب ووسيلة إلى الشهرة ومخالطة العلية من غير ما تقيد بقيودهم.
ولقد كان رضا الشاعر بالنزول عن مرتبة السيد والفارس تضحية عظيمة وثورة خطيرة. ولقد أصاب أوائل الشعراء الذين أقدموا على هذا النزول عن عمد أو اتفاق شر كثير. وعلى رأسهم امرؤ القيس، إذ قد نزل عن مرتبة الملك إلى صحبة الشذان والخلعاء وهو القائل:
وقربة أقوام جعلت عصامها ... على كاهل مني ذلول مُرحل