ذلك غيثًا قريبًا، وهذا الاحتيال مكنه من أن يلتمس العزاء من تأمل الغيث والفناء في ذلك التأمل. وقد يخيل إليك أول الأمر أن أبيات امرئ القيس هذه إنما هي مجرد تصوير ونعت ليس إلا ولكن فيها كما ترى مع ذلك روحًا قويًا أخاذًا. فإذا التمست أن تؤول هذا الروح القوي الأخاذ بأنه من براعة الصورة أو جودة التشبيه، فأعلم أن التماسك غير بالغ بك إلا إلى فهم جانبي مقارب للسطحية، إذ منشأ هذا الروح القوي الأخاذ هو من المعاني الكامنة تحت رمزية البرق: تلك المعاني التي تمت إلى الشوق والحنين وحب الأنثى واستحسان الجمال مع اليأس من أخذه كاملاً واستصفائه. وقد حولها الشاعر كلها من مسلكها ثم سما بها من مجاريها في أعماق النفس إلى تأمل الغيث والطبيعة وروم الاتحاد معهما.
وقد وصف لبيد بن ربيعة البرق في قصيدته اللامية «ألم تُلم على الدمن الخوالي» فقال:
أصاح ترى بُريقًا هب وهنًا ... كمصباح الشعيلة في الذبال
أرقت له وأنجد بعد هدء ... وأصحابي على شُعب الرحال
يُضيء ربابه في المُزن حُبشًا ... قيامًا بالحراب وبالإلال
كأن مُصفحات في ذُراه ... وأنواحًا عليهن المآلي
ثم وصف المطر ثم وصف السيل. ثم ختم جميع ذلك بقوله:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نُميرًا والقبائل من هلال
رعوه مربعًا وتصيفوه ... بلا وبإسمي ولا وبال
فأشعرك بهذا أنه لم يرد من نعت البرق والغيث إلا إبلاغك جانبًا من حب قومه والأماني لهم مع أشواق أخرى كثيرة، لعل هذا الحب لقومه لم يكن إلا طرفًا منها