للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبعة أيام بعد ذلك، ثم أرسلها مرة أخرى، فرجعت عند المساء وفي فمها غصن زيتون في رواية التوراة ومن كرم في رواية العرب. فسر سيدنا نوح من ذلك وتزعم العرب أنه كافأها على حسن قيامها بما عهد إليها به أو أنها جعلت عليه ذلك أن هي عادت بنبأ يسر. قال الجاحظ في الحيوان على لسان صاحب الحمام (١) «أما العرب والأعراب والشعراء فقد أطبقوا على أن الحمامة هي التي كانت دليل نوح ورائده، وهي التي استجعلت عليه الطوق الذي في عنقها، وعند ذلك أعطاها الله تعالى تلك الحلية، ومنحها تلك الزينة بدعاء نوح عليه السلام، حين رجعت إليه ومعها من الكرم ما معها، وفي رجليها من الطين والحمأة ما برجليها، فعوضت من ذلك الطين خضاب الرجلين، ومن حسن الدلالة والطاعة طوق العنق».

وكما صار الغراب علمًا للشؤم في قصة نوح هذه، صارت الحمامة علمًا للمأوى والرجاء وانتظار الأوبة (٢) والوداعة وحسن الخلق والزينة والبهجة، وخفة الحركة. ثم لا يخفى عنك ما في القصة من إشارة إلى خصوبتها وأنوثتها في الخضاب والطوق والغصن الذي هو دليل الريف والرفه والخصب. وما أحسب أمن الحمامة بمكة إلا قد نشأ من هذا المعنى، إذ الغراب، وهو المقرون بالحمامة في القصة النوحية على سبيل التفاوت والتباين، غير آمن بها أمن الحمامة، بل قتله مباح، ومن نعته أنه فويسق وذلك من أسماء إبليس كما ذكر الجاحظ.

هذا وقد أكترث الشعراء من ذكر الحمام وأمنه بمكة. قال الآخر (٣).

لقد علم القبائل أن بيتي ... تفرع في الذوائب والسنام

وأنا نحن أول من تبنى ... بمكتها البيوت من الحمام


(١) نفسه ٣ - ١٩٥.
(٢) وأصل هذا من تأليف أزواج الحمام كما مر بك في أول هذا الفصل.
(٣) نفسه ٣ - ١٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>