«إلى حمام شراع وارد الثمد» وهو في بيتيه قد بسط المعنى وفصله ووضحه أيما توضيح. فالمتجردة في هذين البيتين معًا منعوته بنعت الحمامة، إذ لا يكون لها قادمتان، إلا إذا كانت هي نفسها حمامة والقادمتان شفتاها اللعساوان الورقاوان كالحمامة الورقاء واللثتان من دونهما سوداوان عليهما الإثمد، قد رواهما كما روى عروق العينين من زرقاء اليمامة. ثم من دون هاتين اللثتين أنيابها اللواتي كأنهن برد. ودلالة البرد على الري والورد الشافي لا تخفى.
والصورة كلها بعد فيها إشعار شديد بالخصب، إذ لا تحتاج إلى كبير تأمل لترى وجه الشبه بين لعسة الشفتين وسواد اللثات وحوة الشاطئين وأكناف الغدير.
وفي قول النابغة «تجلو بقادمتي حمامة أيكة» إشارة إلى معنى العين والنظر عند قوله «تجلو» كما أن فيه روحًا من البهجة والخفة، إذا خفوق جناحي الحمامة جميل خفيف، وتشبيه افتراق الشفتين بذلك، فيه صورة ابتسام وافترار.
هذا وأنت ترى النابغة حين جعل نظر المتجردة بعيدًا ملتاعًا في بيته الأول:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود
عاد فجعل فمها ممتلئًا ريان خصبًا برودا. وفي هذا إلماع إلى معاني الحب والوصال واللقاء، إذ الأنثى كما هي مورد نضير، هي أيضًا ظمأ مُحتدم، لا شفاء له إلا أن يلقى ظمأً آخر محتدمًا من صنفه وجنسه.
هذا ورمز الحمامة المشرف على بيتي النابغة معًا فيه إيحاء بسائر ما يكون في معنى الحمامة من الوداعة واللطف والإيواء والرجاء والأمل. ولذلك قال في الأبيات التي تلتها:
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندى
زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب مقبله شهي المورد
زعم الهمام ولم أذقه أنه ... يشفي ببرد لثاته العطش الصدى