وشعراء النسيب من أمثال جرير أكثر نعتًا لبكاء الحمام في معرض الشوق من «عُذريي» الحجاز ومن لف لفهم. وأحسب سبب ذلك أن هؤلاء لا ينحون إلى دعوى التسامي المحض، وإنما أربهم إظهار الصبابة والصدق فيها مع العفة التي تذود الرغبات ولا تزعم أنها تتسامى فوقها. ومن أجل هذا تجد اللوعة عندهم أقوى وأحر، ويخالطها ما يخالط كل تغن بالنساء من بهجة ونشوة وطرب. وعندي أن مذهب هؤلاء أصدق في حاق العذرية من مذهب التسامي الذي في أبيات ابن مسعود، والله تعالى أعلم. ولأمر ما أخذ الشعراء بهذا المذهب الملتاع، الذي لا ينكر «الجنس»، ولكن إنما يتفجع على الحرمان، ويناغي وهو في قيده أطياف الوصل والمنالة، قال توبة بن الحمير:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعمًا ... ولا زلت في خضراء دان بريرها
فههنا ما شئت من بهجة ونعومة وخصوبة وغزل منطلق العنان، مع حنين ولوعة. وكأن كل ذلك إنما هو حكاية للوعة الحمامة وبهجتها ورشاقتها وجمالها حين تتغنى. وقد كان توبة بن الحمير شاعرًا جزلاً، وفتى فتيان فحلاً، ولم يكن غرامه بليلي الأخيلية، في شرفه وعفته، مجردًا صوفي المنحى، وإنما كان تعلق عاشق بمعشوقة، عشق رجل لامرأة، من صنف الغرام البدوي الذي يفرض العفاف على أصحابه وازع المروءة والأمانة والصون والحصانة، ومما يدلك على نحو من هذا الذي نقوله، كلمة توبة:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تُقاها أو عليها فُجورها
ومما يروونه من شعر ليلى الأخيلية في هذا المعرض قولها:
وذي حاجة قُلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وحليل