هذا، ولجرير كلمات حسان في نوح الحمام لا يقصرن عن شأو حميد وقد يبارينه، مزج فيهن مزجًا محكمًا بين معنى المأساة الذي في قصة الهديل، وبين سائر ما يتصل بالحمامة من معاني الخصوبة والسقيا والخفة والرشاقة والألفة، وهلم جرا.
وجرير يوجز ويومئ ولا يطيل ولا يفصل في النعت. وهذا مما يزيد في قوة بيانه، ويجعله ذا أثر فعال، حافلاً بدقائق الإشارات، وخفي الكنايات عن شتى مكنونات ألوان الغزل والوجد والحرمان والرغبات الممنوعات. قال في إحدى ميمياته:
تركته مُحلئين رأوا شفاء ... فحاموا ثم لم يردوا وحاموا
فلو وجد الحمام كما وجدنا ... بسلمانين لاكتأب الحمام
أما تجزينني ونجي نفسي ... أحاديث بذكرك واحتمام
ولا يخفى التشهي الممازج للظرف والرقة ههنا. وقال من أخرى:
مُطوقة ترنم فوق غُصن ... إذا ما قُلت مال بها استقاما
سقى الله البشام وكل أرض ... من الغورين أنبتت البشاما
أُحب الدار من هضبات غول ... ولا أنسى ضرية والرجاما
وهذا الشعر مما يعجز عنه التعليق. وقد جعل جرير حمامته ههنا طربة غزلة حنانة فجمع بين سائر أصناف ما قدمنا من أصول رمزيتها -ولا يخفى عليك بعد مكان الحلاوة والوجد العميق- وإنما الحمامة ههنا ذكرياته وخطرات قلبه ورغباته هو، ولا غرو أن الشاعر من أجل هذا كله قد خاطبها، كما يخاطب الصديق، وتلطف وترفق