الاستعارات التي تبدو بعيدة تقرب جدًا حين نردها إلى ما يتداخل بعضه في بعض من معاني الربع والرموز التي تطيف بشتى صوره في بيان الشعراء، وبكل ذلك فقد كان أبو تمام عالمًا حاذقًا. وقال في البائية المشهورة:
ما ربع مية معمورًا يُطيف به ... غيلان أبهى رُبى من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أُدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
واستعارة الخد لعمورية ههنا مصدره مما تقدم ذكره من نحو قول القائل:
أثر الوقود على جوانبها ... بخدودهن كأنه لطم
وقال في بائية عمرو بن طوق:
لو أن دهرًا رد رجع جبابي ... أو كف من شأويه طول عتابي
لعذلته في دمنتين تقادما ... ممحوتين لزينب ورباب
وقول تقادما رد فيه الفعل على معنى الطلل وإلا لزمه تأنيثه.
ثنتين كالقمرين حُف سناهما ... بكواعب مثل أتراب
وشاهدنا هذا البيت إذ لك أن تقول أراد أن زينب والرباب حفت بسناهما أي جمالهما وضوئهما كواعب أتراب. ولك أن تقول أراد أن الدمنتين أي الأثفيتين- من باب إطلاق الكل على الجزء أو الملابس على ملابسه على حد تعبير الشماخ «جارتا صفا» - كانت تحف بسناهما أي النار التي توقد عندهما كواعب أتراب. والراجح عندي أن أبا تمام أراد المعنيين معًا ومثل هذا المزج غير قليل عنده- والله تعالى أعلم.
وقال وهو مما استشهد ببعضه السيد المرتضى في أماليه:
وأبي المنازل إنها لشجون ... وعلى العجومة إنها لتبين
فاعقل بنضو الدار نضوك يقتسم ... فرط الصبابة مُسعد وحزين