وقال مسلم بن الوليد وفيه نفس الأوائل ممزوجًا بالنفس المولد:
أديري على الكأس ساقية الخمر ... ولا تسأليني واسألي الكأس عن أمري
وقد داخلت الخمر من بعد معاني التصوف، وأكسبها التحريم مع هذا لونًا من قداسة، وخصب مؤنث ممنوع. فصارت تدور في بيان الشعراء، من يشربها منهم ومن لا يشربها، مدار الرمز. ولا ريب أن أبا نواس مع انتهاجه طريقة الأوائل في جياده واحتذائه أسلوبهم في تشبيهاتهم ومجازهم ومذاهب نعتهم، قد كان ممن مهدوا لهذا، لما كان يضيفه على روائعه من فوق أضواء الوصف، من سحائب حزن سحيق المدى، وشجن بعيد الغور، وما كان يلابس ذلك من ألفاظ المتفلسفة والعلماء وتأملاتهم والأخلية المستمدة من ثقافتهم. قال في الحائية:
صفرا تفترس النفوس فلا ترى ... منها بهن سوى السنات جراحا
عمرت يكاتمك الزمان حديثها ... حتى إذا بلغ السامة باحا
فأباح من أسرارها مستودع ... لولا الملالة لم يكن ليباحا
فأتتك في صور تداخلها البلى ... فأزالهن وأثبت الأرواحا
وقال في الهمزية:
فقل لمن يدعى في العلم فلسفةً ... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت أمرًا حرجًا ... فإن حظر كه في الدين إزراء