شاديًا يشدو وقد طربت لشدوه إحدى جواريه فأرسل في طلبه ظنًا منه أن بينه وبين الجارية علامة، فلما اطمأن لبراءته تمثل بأمثال في معنى الغيرة ثم أمر به فخصي. وعسى أن يكون هذا من باب ظلم الملوك ولكن دافع الغيرة فيه لا يخفى. وخبر الرشيد وأختيه عليه والعباسة مشهور. ومقالة ابن خلدون في نفس خبرة العباسة، هي أيضًا مما يدخل في الذي نحن بصدده من معنى الغيرة.
هذا وقد كانت العرب لغيرتها وحرصها على إظهار الرجولة والفحولة مما تذمر أنفسها عند القتال ولا سيما قتال الثأر باستصحاب النساء. وقد أخذت قريش معها نساءها إلى أحد، وخبر ذلك مشهور. وقد خرجت هوازن إلى حنين ومعها النساء والذراري، وقد عاب هذا دريد إذ لم يكن القوم طلاب ثأر، وكان يخشى على العقائل السباء وقد وقع ما خشية لولا أن منَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما تشفعت إليه أخته الشيماء. وذكر ابن خلدون في المقدمة أن من تدبير العرب في الحرب استصحاب النساء يجعلونهن مرجعًا يفيئون إليه، فإن لم تكن معهم النساء جعلوا الإبل والمتاع بتلك المنزلة. ومما يذكر أن أصحاب الغافقي إنما أتوا في يوم بلاط الشهداء (٧٣٢ م) من جراء غارة شارل مارتل على الحرم، فاختل لذلك نظامهم.
وهذا بعد باب يطول.
ومما كان يفتخر به العربي صحة النسب. وكانوا يغلون في ذلك. وكل هذا لاحق بمعنى الغيرة.
وكان الطعن في الأنساب والأعراض من قبيل الغارة والسباء. «وجرح اللسان كجرح اليد» ولذلك ما كانوا يأنفون أن ينالوا به، ومما كان العدو يجتهد في الكيد من طريقه لعدوه. ولقد حارب المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حاربوه من هذا الوجه، فلهجوا بحديث الإفك، وكان ذلك من أعظم محنة وقعت به صلوات الله عليه: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ،