الجيل من الأنصار للحياة من خوف عقاب الله أو رجاء ثوابه لا يدع مجالاً لمثل هذا. وإنما كان يمسك بالحياة منهم آنئذ أهل النفاق. وما كان رجال الحديث ليغفلوا عن هذا من أمرها لو قد كان لها منه أدنى نصيب.
هذا ولعلك بعد سائل عن موقع نقائض جرير والفرزدق مما احتاط له الشرع. والجواب عن ذلك غير عسير. أوله أن العصبية القبلية بالكوفة والبصرة لم تكن كالعصبية الجاهلية في الصرامة والعرامة، ولكنها كانت بقية منها، وذكرى من ذكرياتها وشبحًا من أشباحها، وربما داخلتها أحيانًا مبالغة وغلو- ولكن ذلك مما يعن في سائر ما يجري مجرى الذكرى والبقية والشبح. وثانيها أن القوام سلكوا بالنقائض مسلك الهزل، وكانت لهم مندوحة عن أن يتهموا بحاق القذف في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}. فكان كلامهم يجري مجرى اللغو في نظر الناس. وربما فرّ أهل الورع منهم إلى الاستغفار ليجعله الله كاللغو فلا يؤاخذهم عليه. من ذلك ما رووه عن جرير، وكان ذا دين، أنه كان يستغفر من مقالته في جعثن أخت الفرزدق. وخبر جعثن كالنص في هذا الذي نقول به، إذ الرواة مجمعون على أنها كانت امرأة صدق وأن حديث جرير عنها باطل. ثم هم لا يذكرون أن أحدًا اتهم جريرًا بقذف أو طالب فيه بحد. وما كانوا ليترددوا عن ذلك لو حملوا قوله محمل الجد، وقد كاد الفرزدق يؤخذ أعنف أخذ لمقالته التي قال بالمدينة. وما كان رهط جرير أيضًا ليكفوا عن الفرزدق في مزاعمه عنهم، وقد تمكن جماعة منهم ذات مرة منه فأرادوه على ما كان يصمهم به من أمر الأعيار، فتخلص منهم ببادرة من بوادر الفكاهة هجاهم فيها بشر مما كان هجاهم به من قبل. وارجع إلى خبر ذلك في الأغاني. (الأغاني ج ١٩ - ٤٠).
وقد جاءت أخبار في أنفة قوم من قذف الهجاء وانتقامهم من أصحابه، وهذا مما يصحح ما قلناه، وليس ههنا موضع استقصائه، وبعد فالحديث عن كل هذا مما يطول.