للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعسى القارئ الكريم أن يكون قد استخلص كما استخلصنا نحن من جميع ما تقدم أن حياة العرب بضرورتها في التنقل. ومزاجها في الكلف بالأسفار، وقلة استصحابها النساء، ومذهبها في الغيرة وما إليها، كل أولئك قد أحطن العرب بحرمان عظيم، وقد زاد الإسلام هذا الحرمان أيما زيادة بما أحدثه من تحريم البغاء، ومنع السباء، وأبطال ما كانت تتسع له وثنية الجاهليين أحيانًا من نادر التبرج (١)، وعزيز اللهو. ولقد أزعم أن المسيحية في تاريخها الطويل لم تبلغ ما بلغه العرب والإسلام في هذا المضمار. لا بل لم تكد تقاربه قط إلا في أصقاع قليلة وفي أزمنة محدودة وعند أقوام بأعيانهم، هذا بالرغم مما كانت عليه من مبادئ الرهبنة والتبتل وتوحيد العشير، وبالرغم مما أباحه الإسلام من ملك اليمين وتعدد الحلائل. وهذا باب يطول استقصاؤه، فنكتفي فيه بالإشارة دون البسط، إذ ذلك قد يخرج بنا عن غرض هذا الكتاب. وإنما أربنا أن ندلل على مكان الحرمان من حياة العرب، وعلى أثر ذلك في الشعر، وفي باب الغزل بوجه خاص.

هذا، وإذ دعوة ما بين الزوجين الذكر والأنثى أقوى من كل حرمان، فإن هذا الذي وصفناه قد كان مما يشجي ويهيج إلى الإفصاح وينطق بالشكوى أيما أنطاق. وقد كان كل ما ينطق به المرء جادًا في حديث النساء، بحسب الذي ذكرناه ووصفنا منه، -والشكوى لا يمكن أن تخرج من هذا النطاق على أية حال- مما يخشى فيه أن


(١) قال تعالى (الأحزاب): {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} والخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم. واختلف المفسرون في الجاهلية الأولى ما هي. قال الطبري (٢٢/ ٤).
«وكان بين آدم ونوح ثمان مئة سنة، فكان نساؤهم من أقبح ما يكون النساء ورجالهم حسان فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه فأنزلت هذه الآية: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وقال آخرون: بل ذلك بين نوح وإدريس إلخ (راجع ٤ - ٥). قال الطبري (٥): وجائز أن يكون ذلك بين آدم ونوح وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح. فتكون الجاهلية الآخرة ما بين عيسى ومحمد. وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل فالصواب أن يقال في ذلك كما قال الله أنه نهى عن تبرج الجاهلية الأولى. أ. هـ».

<<  <  ج: ص:  >  >>