وثانيهما: أن الشعراء العرب اعتمدوا الإيحاء والإيماء، في حيز النموذج المتشابه. وكلا هذين مما يكونان أفعل من التصريح. وأعظم بها من نشوة تلك التي يجدها متلقي القريض حين يجد نفسه مستطيعا، من جراء الإيحاء والإيماء، أن يحس تباين الأفراد والتجارب من خلال النماذج المتشابهة، حتى أن كلا منها يصير عنده لما يجده منه، مختلفا عن الآخر كأشد ما يكون الاختلاف.
ومن عجب ما يصح ذكره في هذا الباب وفي أبواب غيره مما يلي مما تقدم أنك تقرأ المطلع من قصيدة ما فتجده كمطلع آخر. ثم إذا مضيت فيها وعدت إلى المطلعين مرة أخرى وجدتهما حق مختلفين. خذ على سبيل المثال قول النابغة:
يا دَارَ مَيَّة بالعلياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَت ودَامَ عليها سَـ الأمد
فهذا كمطالع كثيرة أخريات:
يا دار مَيّة بين الْحَزْنَ فالجَردِ
يا دار عَمْرَة منْ مَحْتَلِّها الْجَرعا
يا دار عَبْلَةَ بالجواءِ تَكَلَّمي
يا دار سلمى بَعيدًا ما أُكلِّفُها
وهلم جرا.
ولكنك بعد أن تقرأ القصيدة كلها لا تملك أن تحس فيه وفي ما يليه من الصفات استشعارًا لمعاني العتاب فيما بين النابغة والنعمان بن المنذر. فلأمر ما - مثلا - اختار النابغة اسمي العلياء والسند في مستهل المطلع. ثم زعم أن ذلك قد أقوى ومر عليه زمن بعيد. ولأمر ما وقف هو عند الدار أُصَيْلالًا بعد أن مضى الضحا والظهر والعصر جميعا ثم لم يجد جوابا ولم يلق في الدار أحدا. ولأمر ما جعل الوليدة ترد أعالي النؤى وتضربه حتى لبده ذلك. ثم شبه النؤى "كالحوض بالمظلومة الجلد" وهل كان النابغة