للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والبيتان الأخيران هما مقطع القصيدة، وفي معناهما شبه بمعاني المثقب إلّا أن ههنا وحشة أشد وكبرياء أعظم. وعسى القارىء أن يكون لمح بعد، بين هذا جميعه وبين ما اختتم به زهير معلقته من الحكم وجوها من الشبه وتقارب المذهب على ما كان من اختلاف في ظاهر الغرض:

ومن لم يذُدْ عَنْ حوْضه بِسلاحِه ... يُهدَّم ومن لا يظْلِم النَّاس يُظْلَم

ومن يَجْعلِ الْمَعْرُوفَ من دُون عِرْضِه ... يَفِرْهُ ومن لا يتَّق الشَّتْم يُشْتمِ

ومن يُوفِ لا يُذْمَم ومن يُهْدَ قلْبُه ... إِلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لا يتَجمْجمِ

ومَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِيءٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وإنْ خَالَها تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

وبعد فكل هذه الأمثلة التي ضربناها إنما قصدنا بها أن نوضِّح ما ذكرناه آنفا من أن الشعراء مما يَتَّحِدون بتجاربهم المختلفة مع النماذج المتشابهة وَممَّا يضمنون هذه النماذج ما يشعر باختلاف تجاربهم وينبيء عن طبائعها، من طريق الإيحاء والإيماء، الذي يكون تارة بما يوقعونه في النماذج من تحوير لفظي دقيق المأتي رقيق المدخل، وتارة بالاختصار في باب مما يطال فيه أو الإطالة في باب مما يختصر فيه وهلم جرا.

وقد عمدنا - كما رأيت - إلى التمثيل ببعض ما يقع من تواشج رمزي بين أغراض المدح والفخر ومطالع النسيب، لأن ذلك قد يكون أوضح في الدلالة على ما نزعم من أنه قد يقع الإيحاء بالتجارب الغرامية الفردية داخل النموذج النسيبي المتواضع عليه نفسه أو داخل القصيدة التي يفتتح بها أو يعن فيها. وإذ النموذج النسيبي التقليدي مما يمتزج امتزاجا شديدا بإيحاء الشاعر عن تجربته الخاصة، حين تكون له تجربة خاصة، لأن الباب كله غزلي متحد السنخ والجوهر، هذا من جهة، ولأن الشاعر يعتمد هذا التوحيد طلبا للتجويد الفني وطلبا للتقية، هذا من جهة أخرى، لكل هذا، فإن التحرير الذي يجريه الشاعر في النموذج التقليدي أو يدخله

<<  <  ج: ص:  >  >>