فلما عزل سعيد وصار مروان واليًا مكانه تقصد الفرزدق بالذي تقصده به من تهمة الزنا، وكتب إلى معاوية يشكوه، أملًا أن يستدعيه معاوية فيقيم عليه الحد وكان الفرزدق قد هجا معاوية. وكان صنيع زياد به من قبيل استرضاء معاوية. فرغب مروان بفعله هذا إلى نحو من صنيع زياد. ولم يكن معاوية من يؤخذ على غرة فتغيب عنه حقيقة ما كان يرمي إليه مروان. فما كان منه لما بلغته الشكوى إلا أن رد الأمر إلى مروان وأمره هو أن يكون المتولي لإقامة الحد. فسقط في يد مروان. ثم التمس لما كاد يوبق نفسه فيه مخرجا، بإبعاد الفرزدق، وإعطائه صحيفة كصحيفة المتلمس. وإخباره بما فيها كيما يحتاط لنفسه وينجو. وقد فعل. والقصة كما ترى، مع الذي فيها من طرائف العلاقات الاجتماعية والسياسية بين معاوية وولاته وأكابر الشعراء في دهرهم، فيها أيضا شيء كثير مما يجري مجرى النقد والتعليق على الشعر نفسه. والتهاون في إقامة الحد مما يقوي هذا المعنى.
هذا، ومما يجري مجرى الإيماءة والرمية في النقد ما يذكر عن سكينة بنت الحسين أنها عابت على جرير قوله:
طرَقتَك صائدةُ القلوب وليس ذا ... وَقْتَ الزيارة فارجعي بسلام
وظاهر نقدها أنها تعيب المعنى العام إذ ليس الطارق الحبيب مما يرد، وتُحَدَّد له مواعيد الزيارة التي لا يعدوها - وباطنه أنها فطنت لإيماءة خفية إلى تجربة ذاتية من جرير، ففضحتها بهذا العتب الذي عتبته، والله أعلم. ومما يؤيد هذا الحدس أنه لا معنى لطرد الخيال ههنا إن لم يكن الشاعر يرمز به إلى أمر من قبيل الطرد قد وقع، وفي نفسه عقابيل من حسرته.
وشبيه بهذا من حيث الإيماء في باب النقد، ما عيب به كثير حيث قال:
أُرِيدُ لأَنْسى ذِكْرها فكأَنَّما ... تُمثَّلُ لي لَيْلَى بِكُلِّ سبيل