أحسن فيه من عرض الحجة وبسطها، وعلى ما أصابه من جوانب الحكمة.
وقال أبو تمام:
نَقِّلْ فُؤادَك حَيْثُ شِئْتَ من الهوى ... ما الْحُبُّ إلَّا للحبيبِ الأوَّل
كم مَنْزِلٍ في الأرْضِ يَألَفُه الْفَتَى ... وحَنينُه أَبدًا لأوَّلِ مَنْزِل
وقد صدق أبو تمام إن يكن قصد إلى معنى المودة والرحمة. أما إن قصد محض الحب، ففي قوله نظر، وكذلك في المثل الذي ضربه من ادعاء الحنين للمنزل الأول وحده. وهنا مكان حجة رسل.
هذا، وأكاد أزعم أن الذي يلهج به بعض المعاصرين من نسبة قدماء الشعراء العرب إلى أنهم ماديون في مذهب الغزل، باطل بحت. وأحسب أن هؤلاء أتوا من حيث وجدوا أوصافا للشحم واللحم مما يستحب مثله عند اللذة. وليس لعمري غزل القدماء كله في أوصاف الشحم واللحم، ولا كل الأجساد التي وصفوا تجري على هذا، ولا التي وصفوها بهذا كلها تجري على معنى إرادة اللذة. ثم إن القرآن لم يكن ليخاطب العرب، فيمتن الله عليهم فيما امتن عليهم به من آلائه، بنعم المودة والرحمة في الزواج، لو لم يكن يعلمهم مدركين لهذا المعنى. وإنما كان يخاطبهم بما يعلمون ويدركون. وليست الرحمة والمودة لعمري مما يوسم بأنه ماديّ ولقد عبروا عنها في الشعر كأصدق ما يكون التعبير.
ثم ما سميناه "لوعة الجنس" ليس كله ضربة لازب بمادي، لا ولا بعضه، إلا من حيث هو ناشيء عن غريزة متأصلة في سر الحيوان. ذلك بأن المادية انما تعلق بالغزل حين تصير اللذة الجنسية هي غرضه. أما المناغاة الملتاعة التي تكون من الحرمان، فهي تسام فوق طلب اللذة، وإن يك نيل اللذة مما يظن أنه يطفئها. والعرب في باب الجنس أعمد إلى هذه المناغاة، منهم إلى ذكر اللذة نفسها، أو ذكر طلبها، وإن كانوا لا يدعون لذلك ذكرا في موضعه وعند اقتضاء الحال له.