للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لطبيعتها واستشعار لغوامض من تجارب تمت إليها. ثم يذكر النابغة نبل نفسه عند أوقات المطمع، كيف يتمم الأيسار، ويتفضل عليهم بالفرص ولا يتعجل فواتها، ثم هو بعد ذلك سيد ذو أسفار وفّاد إلى الملوك، معمل للناقة المدى الطويل حتى تكل وتشكي وتنصب وتسأم- وهذا الذي تلقاه الناقة قد كان طرفًا مما يلاقيه هو، بل لعله كنى به عن كلال هذه الحياة وما يتصل بها أبدًا من ملال وشكوى وسأم.

ثم التجربة التي لقيها بالحرم مازالت عالقة بنفسه أي علوق. فهو يدع هذا الذي أخذ به من قريّ الخروج الذي لم يؤده إلا إلى السأم ليرجع إليها ويتعزى بتلذذ ذكراها حينًا ولو قليلاً. وقد نعت لنا كيف اضطرب من بغام تلك الحرمية وهي تقول: «هل من مخفِّيكم من يشتري أدمًا» أو هذا كان ضربًا مما تقول. وقد بلغ من اضطرابه أن كادت ناقته تساقطه مع الرحل والميثرة جميعًا، وأن لم يجد في الاعتذار عن هذا الذي كان من اضطرابه إلا أن يحذر الحرمية لتبتعد حتى لا تحطمها الناقة. ولعمري لقد كان الموشك أن يتحطم هو لا الحرمية. ثم قال كأن يزجرها على ما كان منها فاضطرب له «أن البيع قد زرم» أي قد انتهى ونحن قد تقضت حاجتنا في الحرم وسبيلنا إلى البين والمضاء. وهذا الزجر منه لها، كما يلوح من ظاهر المعنى، ما كان في الحقيقة إلا زجرًا منه لنفسه، وترديدًا لمعناه الأول:

حياك ربي، فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما

وإنما حياها وانصرف وفي القلب حسرات، فذلك معنى الرجز.

وهذه الكلمة من النابغة من أعز وأنبل وأشرف ما قيل في بابه. وفيها من امتزاج لوعة الجنس ورحمة المودة والتزام أدب الحصانة والعفاف ما ترى. ولا أكاد أشك أن التجربة التي فيها هي بعينها تلك التي جاء بها في قصيدته المعلقة:

عوجوا فحيوا لنعمٍ دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار

<<  <  ج: ص:  >  >>