الأمس وإفرنج اليوم. ولكنا نزعم أنهم عرفوا جوهر الفن الدرامي، وجاءوا به في كثير من أدائهم، وأحسنوا أيما إحسان في الذي جاءوا به.
وقد تعلم ما يُذكر من أمر القصص والقصاص أيام الخلافة الأولى، ولاسيما خلافة بني أمية. ولقد نفق أمرهم حتى أوشك القاص أن يكون ضربًا متممًا للتعبئات الحربية، من شواهد ذلك ما يروي في خبر عتاب بن ورقاء، إذ سأل فيما سأل عنه وهو بإزاء قتال الخوارج عن قاص يحدث الناس عن أخبار عنترة ليثير فيهم الفراسة والحماسة. فلم يجبه أحد. فتفاءل من ذلك شرًا. ثم إن أصحابه أسلموه فقاتل حتى قتل.
وقد كان في القصص -يدل على ذلك ما بأيدينا الآن من سير وأخبار شديدة حيوية التعبير كالسيرة والأيام مثلاً- كثير من من المذهب الدرامي مما ينبئ أن القصاص قد كانوا مما يتبعون أسلوبًا دراميًا تشخيصيًا في التعبير. وقد ذكر أن سيدنا عثمان رضي الله عنه سأل أبا زبيد الطائي الشاعر وصف الأسد، فاندفع هذا حتى إذا بلغ من ذلك مبلغًا قال له سيدنا عثمان: مه فقد أخفت المسلمين. ومثل هذا النهي لا أحسبه نشأ إلا من قوة تشخيص شخصها أبو زبيد (١).
ومما كيد لابن إسحق به فأخرج من المدينة أن مجلسه كانت تجتمع إليه النساء وما كان بالرجل من ريبة فقد كان من الفضلاء أهل المعرفة والإتقان. ولكنه كان فيما يبدو حلو الحديث جيد الأداء حسن الهيئة والتشخيص فيما يقص والنساء مما يأخذ ذلك بقلوبهن، فلعله كره هذا من صنيعه بعض أهل التحرز والتحفظ.
هذا وفي السير والأخبار شعر كثير كمساجلات ما بين المسلمين والمشركين، وما بين أصحاب علي ومعاوية يُنشد على ألسن الأبطال قبل القتال وفي أثنائه ومن بعده، وهذا مما يدل على مذهب مسرحي، إذ مجمع على أن الصحيح من هذه الأشعار قليل،
(١) راجع ترجمته في معجم الأدباء «حرملة بن المنذر» - ١٠ - ١٥١١.