للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن وقش، من قوله له «مه أفحشت على الرجل» فيما روى ابن إسحاق (١). وكما روت سيدتنا عائشة من استحيائه من مسألة بعض نساء الأنصار (٢). إلا أن يرى أن ذلك كان في وجه حق كمقالة سيدنا أبي بكر لعروة بن مسعود الثقفي قبيل صلح الحديبية. وكما أمر به من النهي عن عزاء الجاهلية وكنى بما أدبه الله من الحياء وحث على ألا يكنى في هذا الباب.

ونبو أذواق أهل التحضر عن نحو هذا على خلاف نبو أهل الذوق. لأن أهل الذوق كما قدمنا ينبو إرهاف إحساسهم عن الخشونة. أما أهل التحضر فينبو تواضعهم الذوقي عن الجرأة والتصريح. وفي التحضر من ألوان الفسق ما ليس في البداوة ولا يعن بخاطرها، فهذا سر انزعاج الحضري مما يفصح به البدو، وبين المذهبين في النبو كما ترى بون بعيد، كبعد ما بين التلطف والتأفف والله أعلم.

وقد كانت العرب مما تكره أن ينحي برفث القول إلى جد أو كالجد. فلهذا ما كان يحفظها بعض الهجاء يورده صاحبه كالهازل وهو جاد. وصبر الناس على هجاء جرير دون الفرزدق من العجب، لأن في كثير مما عاب به أقرانه، عدا أمر جعثن، رنة صدق موجعة. ولا هكذا كان الفرزدق. وأحسب أن عمدهم أن يحملوا قول جرير على حاق الهزل حتى فيما يكون عرّض به وهو يعلم. كان مما يتطلبه أيضًا مذهب الغيرة والحفاظ سياسة ودهاء مثال ذلك قوله:

فما خفيت هضيبة حيث جرت ... ولا إطعام سخلتها الكلابا

وهذا لا يناقض ما قدمنا آنفًا مبدأ حديثنا عن الغيرة، إذ بدعوى التهازل قد احتاط جرير لنفسه. وقد صار الجرح الموجع له مذهبًا عرفه به الناس حتى قد كاد


(١) السيرة ٢/ ٢٥٢.
(٢) صحيح مسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>