وإنما هي الدنيا تنيل وتأخذ؟ وقد جزع لما فات فلا أكثر من أن يصرح بالجزع جهيرًا وأن يسر في نفسه، حياء وتقية ما قد جزع عليه مما فات. وحسبه من ذلك أن يجعل أم عمرو وهي كنية التجلة والتفخيم، أميمة وهي تصغير التمليح والحنين والترخيم، ثم أن ينعتها بأنها نعمة العيش. وأنها قد ولت، وليس بعد النعمة إلا الشقاء.
ثم إذ دعاها أميمة قارب مقاربة بعد ذلك فجعلها جارة له، وناداها بجارتي، وبعيد أن يكون أراد بذلك زوجتي وإنما معناه «كزوجتي»، وهذا سر الإسراع بنفي الملامة عنها لما يتبادر من معنى الملامة مع مثل هذا التقريب ممن ليست بزوجته. وفسر معنى الجوار بأنها ليست «بذات تقلّت»، وتقلت هنا حكاية كما يقول النحويون، أي لا يقال في مثلها إنها متلقية تتعازب وتتغطرس وتتبغض، ولكن تبر وتداني وتحسن، فما إحسانها وما مداناتها وما برها؟ وهنا يفاجئك المسرحي العربيّ بالتفات. وذلك أنه يؤجل ذكر ما أحسنت به إليه، ليحدثك عما أعجبه منها هي حين أحسنت إليه، وحين يراها في الحي فيذكر أنها هي بعينها التي أحسنت إليه.
لقد أعجبته أنها متحشمة لا يتساقط قناعها كما تفعل بعضهن ترائيا حين يمشين، وأنها لا تتلفت عفافًا وكبرياء نفس ودقة حس وأنها برة:
تبيت بعيد النوم تُهدي غبوقها ... لجارتها إذا الهدية قلت
وأن برها أشد ما تكون الحاجة يكون بخفية وفي ستر، وقد خشي الشاعر أن يحمل قوله هذا على الإيحاء -وسترى أنه كذلك كما سنذكر لك من بعد- فبادر إلى تكرار نفي الملامة عنها كل النفي، ملامة البخل بالطعام وملامة ما تلام به النساء إذ أنها كهمك من حليلة بعلٍ نقاءً وصفاءً، أبعد ما يكون بيتها عن أن يؤبن بريبة، وغيرها ممن عسى أن يصطنعن الجفاء والبخل وعزمة العفاف لسن كذلك. وعسى أن يكون الشنفري ههنا يعرض بجارة لهذه الفاتنة أو بنت حي من حيها.
ثم يدلف الشنفري يتأملها وهو مشغوف، إذ هي تمشي والحياء يطأطئ رأسها