ثم أضرب عن ذكر ما أحسنت إليه به، وعمّى ليبلغ بالإيحاء إلى ذروته فقال:
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا ... بريحانة ريحت عشاءً وطلت
والشاعر حين يعمى أشد ما يكون إرشادًا إلى تجربته، جوهرها وسر حقيقتها. إذ الذي ناله الشنفري من أميمة أنه انتشى وثمل من مجلسها حتى لكأن البيت قد شملته ريحانة- ريحانة منظرًا وريحانة حديثًا وريحانة لطفًا وعطفًا وإحسانًا ولذة غزل، وافتن الشاعر بعد في نعت هذه الريحانة وجاز عصره في هذه النشوة حتى بلغ عصر أبي تمام العباسي في استحلاء الجناس المتقن «بريحانة ريحت عشاء وطلت» وما نفس أبي نواس عنه ببعيد:
وأضغاث ريحانٍ جنيٌّ ويابس
ثم ارتاح إلى الريحانة فذكر موضعها وأنها قد نورت، وإنما ارتاح ليتجلد إذا حوله الأرج المسنت، إذ الغارة والموت والجيف والنقمة بعد النعمة، ولكن هذا أيضًا مما تهتاج له النفس، ويندفع في قريان منه فيض الحيوية والنبل الإنساني، كما اندفع من أميمة. أليس يذكر الشاعر في معرض نعته له ذات العيال التي زودته حرصًا على سياسة القتال، هو وأصحابه، زادًا أو تحت فيه وتقلت، على أنها للذي يصف من مكرمتها وجودها بنفسها، ليست بذات تقلت، كما أميمة ليست بذات تقلت. وإنما هي كما قال:
تخاف علينا العيل إن هي أكثرت ... ونحن جياعٌ أي ألٍ تألت
وما إن بها ضنٌّ بما في وعائها ... ولكنها من خيفة الجوع أبقت
وكذلك أوتحت أميمة وأقلت من خيفة العار، إذ هي لا سقوط قناعها ولا يخزي نثاها حليلها. وإنما زودته أميمة قعبا من لبن إذ هو مريض، وإذ هي قد رقت له وعادته. وقوله: