تبيت بعيد النوم تُهدى غبوقها ... لجارتها إذا الهدية قلت
جاء به شرحًا لقوله «ولا بذات تقلت» فورّى وعمّى ونبه به على صفتها من بر جارتها وتلك حسنة. وليس ما زعمه ههنا بمستبعد أن يكون قد عهد نحوه من صفتها فمدحها به. ولكن السياق يقتضي أن الجارة هذه ليست إلا الجار الذي كان جيرانًا في مطلع القصيدة، وهو الشنفري نفسه ومما يقوى هذا المعنى أن قوله «بعيد النوم» مع دلالته على خفيّ البر دون معلنه فيه أشبه بالذي نذهب إليه من معنى العيادة والزيارة. وأن قوله «تبيت» كأنه صدى لقوله «فبتنا» أو كأن قوله «فبتنا» صدى له وليس الشعراء الحذاق مما يجيئون بنحو هذا عبثًا، وقوله في آخر القصيدة:
ألا لا تعدني إن تشكيت خلتي ... شفاني بأعلى ذي البريقين عدوتي
مدح ودال على هذا المعنى الذي ذكرناه وقد عمّي الشنفري تقية وشكرانًا لهذه التي أحسنت إليه أن يجيء ما قد يحمل على التصريح في أمرها فجعلها خلة وخاطبها بخطاب الخلة الرجل لا الأنثى -ألا لا تعدني وفي قوله «ألا» رجع صدى من قوله «ألا أم عمر وأجمعت فاستقلت» - وإنما الأمر أنه يعجب لنفسه كيف يستأهل أن يعاد وهو لا يقدر الحياة قدرها، ولا يختار أن يبقى مع الريحان حين تدعوه الغارة ذات الأرج المسنت.
ثم علام يأسف، فقد استفاد من الغارة صحبة صديق حميد، وقد شفى نفسه بمأثرة إدراك الثأر في مشهد فظيع:
جمار منى وسط الحجيج المصوت
وقد آب ليرى أنه بما اختار من مذهب حياته غرض الموت، طال العهد أو قصر. ثم ماذا عسى أن يشين ذلك. أليس كل حي غرض الموت؟ أم ليس حسب الفتى أن يكون مثله، على سجيته طلقا سجحا، حلوا إن أريدت حلاوته ومرا إذا نفس العزوف استمرت.