للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا جيد بالغ. استهل كما ترى بنعت النظرة، وإنما أراد أنها متحجبة لا يرى منها -أو قد يرى شيء- إلا الطرف. وهذا احتياط من غيرة النعمان. ثم قال «فأصاب قلبك غير أن لم تقصد» أي غير أنها لم تصب منك مقتلاً. وهذا زيادة في الاحتياط. يزعم أنها أصابت قلبه بسهمها كما يقول الشعراء أن النساء تصيبهم بأسهمها لا أنها قتلته حقًا إذ هو خلي من حبها لم تقتله وإنما أمره الهمام فهو ينصاع لأمره.

والمدقق النظر يرى في هذا الاحتياط ذرو إيحاء بتجربة. وذلك أن النابغة نظر فازدهاه النظر، وأعرض عن أن يزدهى تقية وعفة. وماذا عساه أن يصنع غير ذلك.

غنيت بذلك إذ هم لك جيرةٌ ... منها بعطف رسالةٍ وتودد

أي أقامت بذلك من أمرها واكتفت. إذ هي جار والجار يكف عنه النظر. وكان حسبك منها عطف رسالة وعطف تودد. ولا ينبغي أن يمر على هذا البيت من غير تأمل ما. إذ هو يحمل في أثنائه كالإيماء إلى ما كان بين النعمان والنابغة في أمر نعت المتجردة. ولا يستبعد أن يكون مراد الشاعر أنه قد كفاة تجربةً، وهو الجار العفيف، أن أرسل إلى هذه الحسناء أو أرسل إليه، فجليت له، وهي منكسرة طرف العين حياء لهذا الذي تكلفه من عظيم الكلفة، وفيها بعد إلى الشاعر عطف ورحمة لما تعلمه أو تحسه من مشاركته لها في عناء تلك الكلفة، والصبر على أشر النعمان، والله أعلم.

وأنا لا أدفع أن تكون جليت للنابغة متجردة أو كالمتجردة كل الدفع. وخبر التجرد كأنه جارٍ مجرى الأساطير والخرافات في بعض قصص البدو، مما ينبئ عن سابقة له سحيقة البون في الماضي السالف. من ذلك مثلاً عندنا في السودان قصة تاجوج والمحلق. يزعمون أنهما كليهما كانا من قبيلة الحمران، إحدى فصائل الكواهلة فيما نبئت. وكانت تسكن أطراف نهر سيتيت، مما ينبئ بقرب عهد اجتياز البحر إلى شاطئ الحبشة والنوبة من الجزيرة العربية. وقد عشق المحلق تأجوج

<<  <  ج: ص:  >  >>