وإنما ذكر النابغة «تستطيع» ليكني عن نفسه، إذ هو قد سمع، ولان قلبه لما سمع، ولكنه لا يستطيع أن يذكر فيما بينه وبين نفسه أنه سمع، حتى يترتب على ذلك أن يتجاوز الرثاء إلى الإيواء. وفي هذا من التقية ما لا يخفى. والأروى جمع أروية وهي من وعول الجبال، زعموا أنها تطرب للصوت الحسن، فتنزل إليه فتأخذها الحبالة، ولولا هذا من ضعف رقتها لم يكن إلى صيدها سبيل لأنها تقطن أعالي الذرى. والصخد جمع صاخدة صفة للهضبة. أي الهضات ذات الحر اللافح.
هذا، وقول النابغة «لرنا لبهجتها» آنفًا فيه نظر إلى قول امرئ القيس «إلى مثلها يرنو الحليم صبابة» - وذلك البيت كما تعلم قد وقع بعد بيت الراهب في معلقته بيسير. قال امرؤ القيس:
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً ... إذا ما اسبكرت بين درعٍ ومجول
فهذا يؤكد عندك الذي زعمناه من أن النابغة قد جعل من المتجردة نفسها ضوءًا يضيء له الظلام بعد أن استعان بالسماع، ثم أحس بصيصًا من لمع في عقد اللؤلؤ وألق الثنايا. وإذ الذي مكنه من الاستضاءة بها هو رمز الراهب وما يحيط به من معنى النار والتنور، كما رأيت، وإذ رمز الراهب هذا نفسه هو الذي ساقه في معرض الاعتذار عما هو مقدم عليه من نعت في الظلام «ولخاله رشدًا وإن لم يرشد» وإذ هو نفسه الراهب الذي رنا، وود لو أوى، ويمنعه أنه لا يستطيع، من أن يأوي، -إذ ثبت جميع هذا عندك، فإن لك أن تجعل اعتذاره أيضًا من معنى ما يستضيء به- وفي هذا من التقية والحرج كما فيه من الافتنان والإيحاء الصادق الشريف اللوعة. وبعد النظرة السقيمة ذات الحديث، رنا النابغة إلى الشعر:
وبفاحمٍ رجلٍ أثيثٍ نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند