وكأن امرأ القيس- على ما فسر به صاحب الخزانة فيض الحميم- يصف انفتال صاحبته وهي تستحم في قوله «إذا انفتلت مرتجةٌ». وما أشبه هذا بإحدى صور ديجاس. ويجوز في فيض الحميم أنه تحدر العرق. وإذا استحمت: إذا عرقت. وهذا عندي كأنه أقوى، والمعنى الذي ذكره صاحب الخزانة فرع منه، وقد جاء في الحديث تشبيه تحدر العرق بالجمان (١). وأحسب أن عبد بني الحسحاس قد نظر إلى هذا المعنى الثاني من امرئ القيس، في بيته الذي يقول فيه «عرقٌ على جنب الفراش وطيب». وعلى كلا التأويلين يتأمل امرؤ القيس حقف النقا ويكنى عن منالةٍ نالها. ولهذا أشاع الظلام والضوء في البيتين التاليين على النحو الذي بينا بمعرض الحديث عن المتجردة، وجعل ذلك تمهيدًا لتفصيل قصة هذه المنالة من بعد:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عال
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبانٍ تشب لقفال
وهذان البيتان مذهلان، وقد سبق الحديث عنهما. وقد ترى أن امرأ القيس جعل نور التي بيثرب، وهو ينظر إليه بقلبه، أعظم من ضوء النجوم التي كان يراها بعينه. وفي هذا تأليهٌ كما ترى. وإيماءٌ إلى معنى الشمس، ومعنى الخصب الذي خلفه وراءه، وهو ساهر يرعى النجوم، وينظر إلى مصابيح الرهبان التي توقد لمن يريدون الرجوع، ولا رجوع له، إذ هو ماض في رحلته إلى قيصر:
ولو شاء كان الغرو من أرض حميرٍ ... ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا
عنادًا وإخفاقًا وقلقًا وأملاً ضائعًا وفرارًا.
ولقد أوشك أن أقول أن امرأ القيس ألهم قوله:«تنورتها من أذرعاتٍ» إلهامًا
(١) النهاية لابن الأنير ١ - ١٨١ (جمن) واللسان (جمن).