عمرو بن كلثوم، كما قدمنا. هذا وقد ترى أن المرار، في نشوته وتعاظمه مرأى التي رأى، وتجريده إياه من خياله، واشتهائه ما جرد منه- قد أسرف في الأخذ من الشعراء، ليزيد من زينة تمثاله اللفظي. وعسى هذا الإسراف أن يكون مما يُعاب عليه، على الذي يزيد به من معنى الطرب والأرن، وإليهما أراد.
ثم عسى إسرافه هذا -إذا قسناه إلى أساليب الأوائل- أن يكون مما تضح به حجتنا في الذي زعمناه، من نظر شعراء العرب مباشرة أو غير مباشرة، إلى مقاييس الجمال في تماثيل اليونان ومن إليهم. ذلك بأن يمثل من التزيين، شبيه من حيث أمر التطور، شبها شديدًا بمذاهب البدن والتنعيم التي صار إليها التمثال اليوناني في الصبايا الثلاث وما بمجراهن أخريات أيامه. ذلك بأن التمثال الجاهلي كأنما مرت به أربعة أطوار: أولها طور السذاجة والخشونة مع مبالغة الأبعاد التي مصدرها التأليه، ويمثل هذا، ما تمثلنا به، نموذج عمرو بن كلثوم وهو جاهلي قديم. وثانيها طور الإحكام والصقل، ويمثل هذا تمثالاً امرئ القيس، وهو أيضًا جاهلي قديم. وثالثها طور الإتقان والتأنق، وشاهده متجردة النابغة، بما لها من إطار السجفين، وزينة القلادة والنصيف، وشيء من تبدين وتفصيل من نعت. ورابعها طور التنعيم الذي يكون التبدين أغلب عليه، وقد تخالطه أوصاف الضمر، كما يداخله تأليه المبالغة. وتماثيل الأعشى وحسان من شواهد هذا، وهذه الأطوار الأربعة جميعها واضحة فيها هيئة التمثال وصورته. تمثال عمرو بن كلثوم هائل المنظر يروع. وتمثال امرئ القيس ذروة في الحيوية، ناصع الصفاء. وتمثال النابغة ناضج، تام الخلق، بارع باهر، وتمثال الأعشى، على ما يشوبه من شخصيته، واضحة فيه مشية هريرة حين تمشي، وجلوة قتيلة إذ تجلى. وتمثال حسان، على ما تكاد تغمره غوامر الشهوة، بينه فيه قعدة صاحبته إذ قعدت وقطنها الأجم كأنه مداك رخام. وغير خاف أن النابغة كان بعد زمان امرئ القيس. وأن الأعشى متأخر عن عصر النابغة، ولو قد أسلم لربا عد مخضرمًا. وأن حسان مخضرم.