للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا صرمت إلى الطور الخامس، رأينا أن التمثال قد صارت تخبو جهارة صورته، وقد جعلت تغلب على وضوحه معاني الإيحاء، أيا كان ذلك الإيحاء. وأن أنف الديم الذي يكاد يلمس في رائية المرار، ليس بواضحٍ شكل الثدي الناهد المحتفل فيه وضوحه في قول النابغة:

والإتب تنفجه بثديٍ مقعد

وما ذلك إلا معنى الأرن والنشوة والشهوة هو الغالب في سائر ما نعت المرار. وقل نحوا من هذا في ذي الرمة. إذ كثبانه ولببه وأسباطه وهدبه، كل ذلك لا يعطينا صورة واضحة، كقعدة مداك الرخام في شعر حسان، وكأوصاف الأعشى فيما نعت من بوادنه، بله امرأ القيس والنابغة. وما ذلك إلا أن ذا الرمة ثقل الحلية من التشبيه، بحيث يصرفك به إلى ألوان من الإيحاءات بعضها شهواني وبعضها تأملي، عن حاق النظر إلى التمثال وتبين معالمه.

وكلا المرار وذي الرمة إسلاميان كما تعلم.

فإذا صرنا إلى ابن الدمينة، وهو إسلامي مثلهما، إلا أنه قد تأخر زمانه عن زمانهما شيئًا حتى أدرك خلافة بني العباس، وجدنا أن التمثال عنده لا يراد به إلا إيحاء الهوى والاشتهاء. ومع أن صورته غير غامضة، فليس فيها إلا رسم نموذجي، كصور الصبايا الثلاث. ذلك بأنه لا يتكلف من الصنعة إلا جمع تشبيه مألوف إلى آخر مثله، وقد صرن لديه، تشبيهات امرئ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم معهم، جميعًا، «كليشهات»، أو ضربًا من «الكليشهات»، يستعان بهن على الإيحاء ليس إلا. تأمل قوله:

وما كانت بمدلاجٍ خروجٍ ... ولا عجلى بمنطقها هبوص (١)

وما كانت بجافية السجايا ... ولا صفر الثياب ولا نحوص (٢)


(١) مدلاج: مشاءة بالليل. هبوص: ثرثارة.
(٢) النحوص: الأتان التي أصابت حملاً وعتي السمينة ههنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>