للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذ ما يجيء منظومًا محكمًا وليس مقصودًا به الشعر فليس بشعر مثل حاق المنظومات التعليمية، فهذا فيه الوزن والقافية واللفظ والمعنى معهما، كل أولئك منوي، ولكن القص ليس إلى الشعر. وكلمة القصد استعملها الجاحظ، ومن عند الجاحظ جاء ابن رشيق بقوله بعد النية ثم تلافاه بقوله «لعدم القصد والنية» وعبارة الجاحظ أدق وهي في الجزء الأول من البيان (١: ٢٨٩) قال «ولو أن رجلًا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان، لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات، وكيف يكون هذا شعرًا وصاحبه لم يقصد إلى الشعر» وهذا من كلام الجاحظ دقيق واضح، إذ الشعر فن يجمع بين الخيال والوهم والتغني والتعبير بانفعال عاطفي والتصوير والتأثير والحكمة وسحر البيان في عناصر أخرى مع الوزن والقافية، وللشاعر أن يهيم في كل واد وأن يناقض نفسه فيمدح اليوم ويهجو غدًا لأنه يصدر به عن قلب العاطفة الإنسانية المتقلب، وصاحب الحقائق العلمية وإن نظمها مقفاة موزونة وتخير لها اللفظ النقي ليس قصده إلى أجواء الشعر لينطلق فيها فلا يكون كلامه شعرًا والقرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام وحي يوحى ليس بصادر عن تقلب قلب العاطفة، ولا ينطق عن الهوى. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} والناسخ والمنسوخ تدرج في التشريع لا تناقض صادر من قلب متقلب.

هذا وأضاف الجاحظ بعدما تقدم من قوله: «وصاحبه لم يقصد إلى الشعر» قوله: «ومثل هذا المقدار (يعني من يشتري باذنجان) من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام».

أي مع كونه غير مقصود به الشعر فهذا يخرجه من الشعر مع اتزانه وقافيته، مع ذلك مثله قد يرد في الكلام اتفاقًا لطبيعة راسخة في سنخ الكلام، تجعل ورود ذلك فيه عن قصد أو عن غير قصد وبنية وبلا نية مما قد يتفق ثم قال الجاحظ: «وإذا جاء هذا المقدار الذي يعلم أنه من نتاج المعرفة بالأوزان والقصد إليها كان ذلك شعرًا وهذا قريب والجواب سهل بحمد الله» ويعني الجواب عن مسألة ورود أمثال:

<<  <  ج: ص:  >  >>