كتبهما له وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرًا أبدًا، ولولا أن أدخل في الحكم بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعرًا أبدًا وهما قوله:
لا تحسبن الموت موت البلى ... فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا ... أفظع من ذاك لذل السؤال
وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير. وقد قيل للخليل بن أحمد مالك لا تقول الشعر قال الذي يجيئني لا أرضاه والذي أرضاه لا يجيئني، وقيل لابن المقفع مالك لا تجوز البيت والبيتين والثلاثة، قال إن جزتها عرفوا صاحبها فقال له السائل وما عليك أن تعرف بالطوال الجياد، فعلم أنه لم يفهم عنه». أ. هـ.
ومات سقنا حديث الجاحظ هذا، وهو مشهور عنه، تداولته الكتب وقل ناقد لم يستشهد به كله أو ببعضه، إلا بالتنبيه على تقديمه ما سماه «إقامة الوزن» وكأن الأصناف اللواتي ذكرهن من بعد فروع من هذه الإقامة: تخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء إلخ. ولعلك أيها القارئ الكريم تسأل فلم أخر صحة الطبع وهي أصل، إذ لا يصدر الوزن إلا عن ملكة وعن طبع. وعندي أن الجاحظ إنما جاء بكلامه على التشبيه بالصناعة كما وضح ذلك في آخر كلامه. وأصل تشبيهه مأخوذ من صناعة عمل السيوف. وما أراه قصد إلى السيف إلا أنه كان يذكر مع القلم ويذكر القلم معه، وصاحب الشعر على زمان الجاحظ كان صاحب قلم. والسيف يختار حديده ويطبع الطبع الجيد الصحيح حتى لا يكون كهاما ويسبك السبك الأصيل وهلم جرا. ثم متى تم صقله كان كثير الماء ظاهر الرونق والسيوف مما تنعت بشبه الماء وبشبه النار. قال الشنفري: