فخيل إليهم أن بداوة العرب ما كانت إلا سذاجة محصورة في الجمل والخيمة، وأن العربي المسكين من أجل ذلك ما كان يقدر على غير الابتداء بالطلل والمقدمة الطللية ثم يتناول بعد ذلك ما يقدر عليه من البسائط في محيط بيئته الوجدانية والعقلية والحضارية وهو محيط ساذج محدود ... هو الجمل، ألم يقل شاعرهم:
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
ويمكن تفسير هذا بأن مراد الشاعر الناقة التي هي هي والبعير الذي هو أنا.
والإنصاف يقتضينا أن نسلم بأن بيننا وبين زمان شعر العرب القديم القرون الطوال. وقد كان للشعر عندهم طريقة ومذهب، وكانت هذه البدايات النسيبية والطللية وما إليها عند الشعراء ما لم يستعملوا المكافحة مذهبًا يعلمه سامعوهم. وكان علم الشعراء بذلك من سامعيهم يعطيهم الثقة من أنفسهم أنهم متى حوروا في طريقة المذهب المألوف تحويرًا يرمزون به إلى ما يرومونه من غرض، فهم ذلك عنهم السامع في يسر وبلا غموض. وكانت ألوان أساليب التحوير أنفسها مما قد عهد السامعون له مشابة تمكنهم من سرعة الحدس لما يطلبه الشاعر من الإبلاغ والبيان. وقد ألمعنا إلى هذا المعنى في الباب الرابع من المرشد الثالث حيث قلنا: «ومن عجب ما يصح ذكره في هذا الباب وفي أبواب غيره مما يلي ومما تقدم أنك تقرأ المطلع من قصيدة فتجده كمطلع آخر، ثم إذا مضيت فيها وعدت إلى المطلعين مرة أخرى وجدتهما حق مختلفين خذ على سبيل المثال:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت ودام عليها سالف الأمد