للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويضربان الصلعات ويمسحانها ويتمثلان بهذا الشعر المفتخر المحتزن في آن واحد، تمثلا كأنما أرادا به أن يترنما لأنفسهما لا أن يسمعا جموعهما.

وصبغة الأسى في الرمل واضحة، لا تكاد تحتاج إلى دليل. وفيه معها قابلية للاسترسال، السر فيها اطراد نغمه:

فا فعولن، فا فعولن فا فعولن ... فا فعولن فا فعولن فا فعولن

وهذه نغمة بسيطة للغاية. وهو من ناحية القابلية للاسترسال هذه أسمى من الكامل والرجز الطويلين. إلا أن أنغامه لبساطتها ورتابتها، وتفعيلاته وتكرارها وجرسها البين تزاحم المعنى في ذهن السامع. أعني أنك تسمع كلام الشاعر ووزنه كأنهما منفصلان، وكأن لوزنه استقلالًا عن كلماته. ومثل هذا الوزن الذي يزاحم المعنى إلى سمع السامع له ميزاته وجماله، ولكنه لا يبلغ إلى الرفعة التي ينبغي أن تكون عليها موسيقا الشعر العالي بحال من الأحوال. والموسيقا الشعرية الرفيعة بحق، هي التي يكون الوزن فيها كالمنزوي وراء كلام الشاعر وكأنه منه بمنزلة الإطار الجميل من الصورة المتقنة.

ولتوضيح هذا المزعم أضرب لك مثلين: أحدهنا من البحر الطويل وهو من مختارات الأخطل، والآخر من الرمل وهو من مختارات الأعشى قال الأخطل (١):

صريع مدام يرفع الشرب رأسه ... ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل

تهاديه أحيانًا وحينا تجره ... وما كاد إلا بالحشاشة يعقل (٢)

إذا رفعوا عظمًا تحامل صدره ... وآخر مما نال منها مخبل

شربت ولاقاني لحل أليتي ... قطار تروى من فلسطين مثقل (٣)


(١) ديوانه ٢ - ٤، وراجع رسالة الغفران ٢٦٣ - ٢٦٤.
(٢) تهاديه: قال الشارح، تسوقه ولم يفصل. وعندي أن الأخطل أراد: تأخذ بهاديه، أي رقبته حينا وتجره حينا آخر آخذة برجله، وهذا يطابق صفة الخمر لأنك تحسها حينا في الرأس وحينا في الرجل.
(٣) كأنه أقسم ليشربن فلاقاه هذا الفطار يحمل الخمر ليحل قسمه والآلية بتشديد الياء: القسم والحلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>