الأعشى تجد دندنة الرمل فيه مبارية لمعانيه حتى إنك لتحسبها جزءًا ضروريا من تلك المعاني. ولذلك فكلام الأعشى يعطيك صورة مجل الشراب وجلبته ونشوته وغناءه وترتح مترنحيه، وانبطاح منبطحيه، وتعثر الكلام والمشي والحركة فيه، وما يتبع ذلك من اندلاق قدح، وانكسار زجاجة، وشخير مخمور، وغلبة النوم على بعض من يتكلف السهر، واصطدام المكاكيك العائمة في الباطية إلى غير ذلك مما يحدث في مجالس السكر. وأما كلام الأخطل فهو على ما فيه من التشبيهات والأوصاف (المأخوذة من الأعشى) لا يمثل لك صورة مجلس الشراب بقدر ما يمثل لك النشوة التي تدخل في رأس السكران المؤمن بأن السكر من طيبات الرزق وخيرات الحياة.
ألا ترى إلى قوله مثلا:
وتوقف أحيانا فيفصل بيننا ... غناء مغن أو شواء مرعبل
أتراه يعمد إلى تصوير الغناء كما فعل الأعشى أو ينهمك في نحو من الوصف الخالص؟ وإنما هي لمحة خاطفة أوردها لكي يكمل معنى النشوة الذي صوره لك بدءا. وهذا التصوير للنشوة - في نفسه هو خاصة- يجعل كلام الأخطل مختلفا في جوهره عن كلام الأعشى وإن كان مظهر الكلامين واحدًا. وإذا تأملت كلام الأخطل بعد وجدت فيه أبهة تحمل ما أراده وكان قصد إليه من تمثيل الشعور السلطاني الذي استولى على نفسه حين انتشى. أما الأعشى فإنه مع استرساله القصصي الصبغة، ورقته، وبراعته، في الوصف، له رنة حزينة منشؤها -فيما أرى- ملنخوليا الرمل، فهي متداخلة في معاني الشاعر حتى إن بعض ألفاظه لم يسلم منها. أنظر إلى قوله مثلا:
بين مسلوب كريم خده ... وخذول الرجل من غير كسح
ألا تحس في قوله:"كريم خده"، وفي قوله:"من غير كسح" شيئا من معاني الرثاء والأسى؟