للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتعمد جعله خاتمة، كل ذلك رغبة في أخذ العفو، وإسقاط الكلفة، ألا ترى معلقة امرئ القيس كيف ختمها بقوله يصف السيل عن شدة المطر:

كأن السباع فيه غرقي غديةً ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل

فلم يجعل لها قاعدة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات وهي أفضلها».

قلت ويستفاد من قوله هذا أن المعلقات الأخريات لهن مقاطع ظاهرة الدلالة على الاختتام وهو ما ذهبنا إليه آنفًا، كما يستفاد منه أيضًا أن قول امرئ القيس هذا خاتمة ومقطع وإن بدا أول الأمر أنه ليس كذلك وإن امرأ القيس كأنه لم يتعمد جعله خاتمة فقطع وفي النفس رغبة وبقي الكلام كأنه مبتور. ولا يخفى أن في هذا البيت الذي ختم به وصف السيل كالرجعة إلى معنى البداية التي استهل بها. المتأمل يجد أن امرأ القيس قد جعل أبيات البرق والمطر والسيل نهاية، إذ تتبع الذكريات المشرقة، ذكر الرباب وأم الحويرث وعنيزة وفاطمة وبيضة الخدر التي لا يرام خباؤها، وكل ذلك صار به إلى قوله:

تسلت عمايات الرجال عن الصبا ... وليس فؤادي عن هواك بمنسل

ألا رب خصمٍ فيك ألوى رددته ... نصيح على تعذاله غير مؤتلى

وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي

وصار إلى ذكر ليل اليأس والحزن والهموم وإلى الإصباح الذي ليس منه بأمثل. وكما قد مر به من قبل ليل بيضة الخدر ولهوها غير المعجل، ويوم دارة جلجل وذكريات أولئك الحسان العذبات المجلس والأنس، مر به أيضًا أيام من قبل كان يغتدى في فجرهن إلى الصيد والطير وفي كناتها، وليال كان يدلج فيهن مع الصعاليك يتصعلك فتوةً وأشرًا معهم، وقد جعل عصام القربة على كاهل منه ذلول مرحل. ولم يكن الليل من تلك الليالي على خشونتهن بليل يأس يتمطى بصلبه وليالٍ منهن ليل

<<  <  ج: ص:  >  >>