وقد اختار القدماء هذه الكلمة لا لجودتها في ذاتها، ولكن لجزالة أسلوبها، ولو تأملتها ودققت وجدت أن أكثرها مصنوع متكلف، وقد أغار الشاعر فيها على معاني من سبقوه وألفاظهم، ولم يرب عليهم بشيء جديد. لا بل يخيل إلي أنه أساء في اختيار الوزن لأنه وزن شجي فيه تكسر وميل إلى القصر، ولا يلائم ما ذهب إليه الشاعر من العنف والقوة في نحو قوله:
وإذا مج القنا علقا ... وتراءى الموت في صوره
قام في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
وإنما يناسب نحو كلمته:
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن
سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن
ومثل كلمته (الشعر والشعراء ٧٧١):
يا شقيق النفس من حكم ... نمت على ليلي ولم أنم
فاسقني البكر التي اختمرت ... بخمار الشيب في الرحم (١)
(١) نسب ابن قتيبة هذه القصيدة لواليه ابن الحباب، وقال: "هكذا قال لي الدعلجي، رجل صحب أبا نواس وأخذ عنه، على أن أكثر الناس ينسبون الشعر إلى أبي نواس، ولو لواليه. قاله فيه أ. هـ" قلت يؤيد هذا المزعم مطلع القصيدة "يا شقيق النفس من حكم" فأبو نواس كان ينتسب إلى حكم ويعرف بالحكمي، وكان أيام صباه غلامًا مليحًا، وكان واليه به صبا. ولكن في نسبة القصيدة إلى واليه مع هذا نظر، فبحر القصيدة من مراكب أبي نواس الذلل، وطريقة نظمها هي طريقة النواسي في خمرياته بعينها، وقرأت في أثناء الحيوان للجاحظ ما يفيد أن القصيدة لأبي نواس بلا ريب، إذ يزعم الجاحظ أنه سأل أبا نواس عن تفسير "فاسقني البكر إلخ" فقال: إنه عنى بالبكر الخمر، لأنها مختومة لما تفض. واختمرت: أي لبست الخمار، وهذه إشارة إلى أن الكرم أول ما يخرج من أكمامه يعلوه بياض كالبرس أو كالشيب، هذا والجاحظ أوثق عندنا من دعلجي ابن قتيبة الذي لا نعرفه. قلت بعد أمة، لا يضير الدعلجي ألا نعرفه إذ عرفه ابن قتيبة ولكن أبا عثمان كان أعرف بأبي نواس من أبي محمد، والله أعلم.