يقوي ما نميل إليه من عدم القطع بأن مثل هذا يدل على الكتابة، وإنما هو ضربٌ من التأكيد، وذلك أن هذا الذي زعمه الفرزدق هنا مما لا يوصي بمثله مكتوبًا وإنما قصد الفرزدق إلى الفكاهة والسخرية.
وهذه الأبيات تقوي أيضًا ما ذهبنا إليه آنفًا من الإشارة إلى سورة المائدة، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية (١٠٦) من المائدة والتي بعدها بمعرض بيت جرير:
إن البعيث وعبد آل مقاعسٍ ... لا يقرءان بسورة الأحبار
وكأن جريرًا ههنا يرد على الفرزدق سخريته التي سخر بها حيث نسب إلى دغفل ما نسب من الوصية والشهادة- وكأن هذا الوجه أقوى، مع ما في سورة الأحبار من معاني النهي والتحريم التي تقدم ذكرها. وقال الصاوي في حاشية تحقيقه على ديوان جرير (تصوير بيروت عن طبعة مصطفى محمد ٣٥٣ أ. هـ. القاهرة): سورة الأحبار هي سورة المائدة لقوله تعالى فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أ. هـ. (راجع ص ٣١٩). وأحسب أنه أوقعه في هذا الوهم ظنه أن الفرزدق إنما سماه جرير عبد آل مقاعس لأن مقاعسًا تقاعسوا عن الحلف -فكأنهم، هذا استنباطه المتضمن، لم يوفوا- وإنما سماه عبد آل مقاعس لأنه عنده في النبز الذي نبزه به أن جده جبير القين.
هذا، وإنما أطلنا الوقفة، على ما اختصرناه فيها حتى لا تتجاوز القدر المعتدل لقوة دلالتها على ما زعمناه من أسلوب التأليف الموسيقي في القصيدة مع تأليفها البياني، وقد فسرنا مرادنا من قولنا الموسيقي. ومهما نزل فيه فلن يخلو هذا الذي قدمناه من عرض وتحليل من توضيح للمراد الذي فسرناه والزعم الذي زعمناه من