حكيم حميد، إعجازه يخلص إلى القلب خلوصًا. نظمه وبيانه يدخل في حيزه كله، مضمونه، رنة ألفاظه وتتابع تراكيبه ورونق أساليبه وأسرار معانيه وضروب مبانيه من محكم ومتشابه وتنزيله وتأويله وبحور علومه، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. وعلى هذا الوجه يفسد ما اتجه إليه أبو بكر بن الباقلاني من عقد الموازنة بين نظم القرآن ونظم امرئ القيس وأضرابه. قال تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور].
وتناول ابن الباقلاني من بعد شعر امرئ القيس، فمما قاله فيه: «فنرجع الآن إلى ما ضمنا، من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع البلاغة، وتستدل على موضع البراعة. وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس، ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورًا اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والمليح الذي تجده في شعره والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعفوٍ، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعره فلانًا وفلانًا ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة، وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبرزوه بين أيديهم، ولما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته ثم وربما غبرت في وجهه في أشياء وتقدمت عليه في