للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا ترى أنا كنا نفقد ما في قصيدته من التمثيل الصادق لحال شيبه وتداعيه، ثم عسى ألا نظفر بعد ذلك بشيء شبيه بما يفعله بنا متقارب الأعشى من إثارة الطرب ولم نلجأ إلى الفروض وعندنا في رسالة الغفران كلمة رائية من بحر البسيط أنشدها المعري على لسان جني يدعى هدرش مطلعها:

سبحان من حط أوزاري ومزقها ... عنى فأصبح ذنبي اليوم مغفورا

وكنت آلف من أتراب قرطبة ... خودًا وبالصين أخرى بنت يغبورا

أزور هذي وهذي غير مكترث ... في ليلة قبل أن استوضح النورا

وهي كلمة طريفة إلا أنها فيما يتراءى لي لم ترق في نظر أبي العلاء ولم تؤد المعنى الذي كان أراده من تصوير هرم الجني أبي هدرش وصوته المتكسر العفري ووحشته وتأبده بين أدحال (١) الجنة وغماليلها (٢)، وخلقه المخالف لخلق الأنيس. لذلك -فيما يبدو لي- أتبعها المعري سينية طويلة من السريع الأول يحمل نغمها كل هذه المعاني. ويفصح بها أيما إفصاح، وذلك قوله:

مكة أقوت من بني الدردبيس ... فما لجني بها من حسيس

وقد ذكرنا للقارئ طرفًا من هذه الكلمة في معرض حديثنا عن قافية السين؛ هذا ومن حقق النظر في بحر السريع الأول وجد الجياد فيه كلها من قبيل ما ذكرنا من اصطناع التأني والريث، ووجد حركته البطيئة تمثل جانبًا مهمًا من جوانب المعنى المقصود, خذ قصيدة عدي بن زيد الصيادية في القصص (٣):

قل لخليلي عبد هند فلا ... زلت قريبًا من سواد الخصوص


(١) أدحال جمع دحل: وهو حفرة غامضة.
(٢) غماليلها: أماكنها المستورة.
(٣) أسلفنا في باب الكلام عن قافية الصاد أن شك في نسبة هذه القصيدة - رسالة الغفران ٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>