وقد سمى كلردج كلتا هاتين المرحلتين Imagination أي الخيال. وفرق بين هذا وبين ما سماه fancy أي التوهم، وجعله من قبيل التزيين والتحسين، وأصله من التذكر وتداعي المعاني، وعليه عنده مدار كثير من المجاز والتشبيه والمحسنات اللفظية. وغير خافٍ أن كلردج قد خلص إلى التفرقة بين الشعر والمنظومة الحقة، أنها لا تكون ولا ينبغي لها أن تكون كلها شعرًا، بسبب جعله الخلق والإبداع أساسًا في ماهية الشعر Poetry ثم لجعله الخلق والإبداع الصادر عن المقدرة البشرية أمرًا محدودًا متناهيًّا إذ اللامتناهي هو الكلمة، هو أنا اللامتناهية في مقال عيسى عليه السلام حسب رواية إنجيل يوحنا «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن». وانضاف إلى هذا الاعتقاد الديني من جانب كلردج عامل آخر هو طول المنظومات في أشعارهم، وقوله عن المنظومة (ذات أيما طول of any length) يدل على ذلك، غير أن جانب العقيدة الدينية هو العنصر الكبير الجوهري في الذي قال به من التفرقة بين المنظومة Poem والشعر Poetry.
هذا وعندي أن أصل مقالة كلردج في التفرقة بينهما من مقال المسلمين بأن القرآن معجزة رسولنا عليه الصلاة والسلام. وعند متكلمي أهل السنة أن إعجازه في أن نظمه في الذروة من البلاغة وأنه لا تفاوت فيه. قال ابن الباقلاني في ثالث المعاني العشرة التي فسر بها إعجاز القرآن (كتابه ص ٥٤: وفي ذلك معنى ثالث وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور. فمن الشعراء من يجود المدح دون الهجو ومنهم من يبرز في الهجو دون