الشعراء. ولا بد أن تكون سبقته أجيال وأجيال من النظم المسمط القوافي (أي المنوع القوافي) والنظم المرسل المعتمد على جرس الحركات والسكنات. ولا يستبعد أن السجع قد كان طرازا من الشعر أول أمره، ثم صار من السهولة بحيث خرج من باب النظم إلى باب النثر مرة واحدة. ومما يدل على أن السجع كان أول أمره شعرًا، أن الكهان في الجاهلية كانوا يسجعون، وكان لهم نوع خاص من السجع. والشعر في أول أمره يرتبط عادة بالسحر والكهانة والدين. بل يكاد يكون محصورًا في هذه الدائرة في البدء، ثم بعد ذلك ينتقل من ربع الدين والكهانة، فيتصرف فيه الشعراء، وينوعون في أوزانه بحيث يجعلونها تصلح للرقص والغناء والفخر وغير ذلك. ويظل النوع منه الذي لم يفارق الكهانة والدين على حالته الأولى، أو قريبًا منها في الغالب الأكثر. ولأن الكهانة والدين تسيطر عليهما المحافظة دون التجديد. ومما يستحق الذكر هنا أن أعداء النبي كانوا يتهمونه إما بالكهانة، وإما بالشعر. وما أحسب أنهم ربطوا بين الكهانة والشعر من غير أن يكون في عقولهم رابط قوي بينهما.
هذا، وعلى تقدير أن الشعر في تطوره الطويل من كلام مرسل إلى كلام مسجوع، لم يهتد إلى القافية الموحدة الملتزمة التي هي طابعه الآن، أتراه كان بذلك يكون أفضل وأسمى وأطلق عنانًا، ثم يبلغ من درجات التعبير الرفيع، مالم يبلغه بعد أن دخلت عليه القافية؟ أستبعد ذلك جدًا. لأننا لو سلمنا بوجود شعراء ينظمون في هذا الشعر الطليق الذي افترضناه، وعندهم من اتساع الذخيرة ما كان عند امرئ القيس وزهير، فلا بد أن نسلم أيضًا بأن نظم هؤلاء ما كان ليسلم بحال من الأحوال من الزخرفة اللفظية المبالغ فيها. وهذا أمر تقتضيه طبيعة الذخيرة العربية الواسعة، ما لم تكبح جماحها قيود شديدة من القوافي الملتزمة والقواعد النحوية الصلبة.
لا، بل إن القافية الملتزمة قد تكون سهلة جدًا على الشاعر ذي الموسوعة الضخمة، إذا اتفق أن كان حروف الروي فيها من الحروف الذلل. فيضطر الشاعر