فقال:«فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر وتسري بشاشته في العروق، وكان البحتري يسمى نحو هذه الأبيات عروق الذهب وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة وحذقه في البلاغة» قلت وبعد هذا الإطراء كله أضاف قوله: «ومع هذا كله فيها ما نشرحه من الخلل مع الديباجة الحسنة والرونق» وأخذ بعد في شرح الخلل من حشو وغلو ثم تكرم فأثنى على البحتري بأنه حدد البرق بموضع واحد وهو وجرة ولم يحدده بأربعة حدود كما فعل امرؤ القيس «الدخول فحومل فتوضح فالمقراة كأنه يريد بيع المنزل»(ص ٣٣٧) وهذه من ابن الباقلاني على طريقة أسلوبه في تناوله الشعراء عبارة سوقية وكأنه شعر بذلك فحاول أن يتلافى سوقيتها بضرب من التفقه فقال «فيخشى إن أخل بحد أن يكون بيعه فاسدًا وشرطه باطلًا، فهذا باب -وليس كما قال البحتري ألمًا فات تلاف-» الإشارة إلى قوله:
ألما فات من تلاقٍ تلاف ... أم لشاكٍ من الصبابة شافي
حسبنا هذا القدر من تجني ابن الباقلاني على البحتري وسوء جزائه له على أخذه منه. من أمثلة أخذه منه قوله (٦٣/ ٦٤)«ومعنى ثامن وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر الكلمة منه في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع وتتشوف إليها النفوس ويرى وجه رونقها باديًّا غامرًا سائر ما تقرن به كالدرة التي ترى في سلك من خرز أو كالياقوتة في واسطة العقد». هذا من قول البحتري:«نظام فريد» وقوله: «بألفاظ فرادى كالجوهر المعدود» وقال ابن الباقلاني وقد مر ذكرنا له: «وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة القصة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا في القرآن فيما يعاد ذكره