الأرسطية ويذكر عن الناقد المجهول لنغينس Longinus أنه قال إنه لا شيء يرتفع بقدر الكلام إلى منازل الشرف كالعاطفة الصادقة حين توضع في موضعها، فإنها عندئذ تلهم الكلمات وتقذف فيها عاصفة من شدة الحماسة وتفعمها بسورة من الهياج المقدس.
فقد احترس بعدة أمور كما ترى، بالعاطفة وصدق العاطفة وبوضعها موضعًا صحيحًا. وما يكاد ناقد يجد مدخلًا إلى تبيين ما يستطيع به الشعر أن يكون صادرًا من القلب حتى يدخل إلى القلب، إلا كان مدخله نفسه كالمخرج له مما دخل فيه كهذا الذي تقدم من احتراس لنغينس لصدق العاطفة، وكالثنائية التي ذكرها الدكتور غنيمي هلال وكالحقيقة الاحتمالية التي زعمها أرسطو طاليس.
وقد فطن قدامة إلى أمر الصدق ولكنه آثر أن يتنكب جعله من الأسس التي يبنى عليها مقاله في الجودة. من ذلك دفعه أن يكون التناقض في كلام الشاعر -بأن يقول شيئًا في كلمة وينقضه في كلمة أخرى- عيبًا وضرب لهذا مثلًا قول امرئ القيس:
ولو إنما أسعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فزعم ههنا أنه لا يسعى لأدنى معيشة ولكن سعيه إلى المجد. ثم قال في كلمة أخرى:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطًا وسمنا ... وحسبك من غنًى شبعٌ وري
فزعم ههنا أن المعزى والأقط والسمن والشبع والري، ذلك حسبه، وهو أدنى معيشة- فقد ناقض نفسه كما ترى.