وانتصر قدامه لامرئ القيس من جهتين، أولهما إنه لم يناقض نفسه حقًّا وثانيهما أنه لو فعل فإن ذلك ليس بعيب؛ لأنه جاء بالقولين في كلمتين له، لا في كلمة واحدة. فكأن قدامة ينكر التناقض في الكلمة الواحدة، لفساده في المنطق ولاشتماله على عنصر من الكذب. ثم مع هذا يشتم تجويزه الكذب لتجويزه التناقض في كلمتين فأكثر.
وقد نسب ابن رشيف كعبًا إلى الكذب في قوله «ولم أذنب» أو «فلم أذنب وقد كثرت في الأقاويل» بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليوعده على باطل. وما أخاله قد خفي على ابن رشيق أن كعبًا في لاميته هذه ينطق عن لسان التوبة. وإن هذا الإنكار تبرؤ، ومذهبٌ من طريقة الشعراء صار لهم في إعلان التبرؤ عرفًا- وعليه قول النابغة:
ما قلت من سيءٍ مما أتيت به ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي
والدليل على أن قول كعب ما كان إلا إعلانًا للتبرؤ قوله من بعد:
وقد أقوم مقامًا لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
فهذا هو مقام التوبة والبراءة الذي أقدم عليه وهو يعلم أنه القتل إن لم تقبل توبته.
ومن الدليل أيضًا قوله:
وقد أتيت رسول الله معتذرًا ... والعذر عند رسول الله مقبول
وصدق الإخلاص هو الذي ضمن له النجاة وأن يقبل عذره.
وبين الإخلاص والصدق تلاق، وهو أن الإخلاص منبعث من أعماق النفس ومن أغوار القلب، وبينهما بع افتراق، وهو أن الصدق مطابق للحقيقة المجردة،