للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاقن حياء أنت ضيعته ... مالك بعد الشيب من عاذر

ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العرة للكاثر (١)

أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر (٢)

فهذا كنثر الخطابة سواء بسواء لولا ما قدمته من انتظام الوزن وتواتر القافية. ولكن انظر في بيتي الأعشى هذين:

ما يجعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الزاخر (٣)

مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر (٤)

ألا ترى مكانهما نابيصا من القصيدة (وموضعهما فيها بعد قوله ساد وألفى البيت)؟ وهل ذلك إلا لأن الشاعر سلك فيهما سبيل التصوير الشعري فتكلف وتعمل واضطر إلى التضمين في قصيدة يكاد كل سطر منها يستقل بنفسه؟ ولا يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أني أعيب التضمين على هذا الشاعر من حيث هو تضمين، فما إلى ذلك أردت، وإنما أعيب عليه أنه ترك ما يتطلبه بحره هذا من جعل الكلام أسجاعًا أسجاعًا، كل سجعة منها كالمستقلة لا تحتاج إلى غيرها لأنها من قبيل التكرار لما سبقها من صور وآراء. والخروج من هذه القاعدة إلى تتبع صورة كاملة والتعمق فيها لا يناسب هذا البحر البتة. وإنما زل الأعشى في هذين البيتين وفي أبيات سواها كقوله:

عبهرة الخلق بلاخية ... تشوبه بالخلق الطاهر (٥)


(١) استشهد به النحويون على شذوذ تحلية اسم التفضيل بأل.
(٢) استشهدوا به على مجيء "سبحان" منقطعة عن الإضافة. وقال الأخفش الأكبر: معناها "تبرؤا".
(٣) الجد الظنون: البئر القليلة الماء البعيدة عن العيون الثرة.
(٤) البوصي: السفينة. والماهر: الملاح.
(٥) عبهرة الخلق: بادنة، وبلاخية: طويلة لينة.

<<  <  ج: ص:  >  >>