للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأن هذه المعاني تكررت في شعره ودرب عليها فلا يستطيع منها خروجًا، ولا سيما وصف الفرات وموجه وبوصيه، فقد أكثر منه جدًا.

وأزعم من هذه الأمثلة التي قدمتها ومن كثير غيرها أن بحري السريع الثاني والثالث لا يصلح فيهما الكلام إلا إذا جاء قطعًا صغارًا قصارًا متشابهة المعنى لا تعمق فيها -وهذا يجعله من أوزان الشعر الدنيا كما أسلفت، ويجور به عن سنن التعالي والسمو المحض الذي هو غاية الشعر الرفيع. ولقرب السريع الثاني والثالث من الأسجاع تجد النظم فيه سهلا يسيرًا. ولعله أن يكون أيسر من النظم في مثل بحر:

صمم صمم صمم صمم ... عمى عمى عمى عمى

لأن الكلمات التي يوازن جرسها جرس "ترن ترن" منتظمًا هكذا لا تعطيك طواعية الكلمات التي يلائم جرسها جرس "تن تن ترن تن تن ترن تن ترن" مثل: "أنظر إلى البحر وأمواجه". "ما أجمل الدار وسكانها"، "هذا غلام حسن وجهه"، "قد ملأ البدر المنير الربا"، "دجاجنا في قفص جيد"، "حمارنا أسرع من قاطرة"، "إن عادت العقرب عدنا لها" وهكذا. ومن أجل يسره وسهولته هذه مستخفه شعراء الغزل الحجازيون أمثال ابن أبي ربيعة والعرجي. وأكثر ما نظموه فيه من قبيل "المشاغبات" و"المشاغلات" الغزلية، كما يقول فتيان اليوم، نحو قول عمر:

من عاشق صب يسر الهوى ... قد شفه الوجد إلى كلثم

رأتك عيني فدعاني الهوى ... إليك للحين ولم أعلم

قتلتنا يا حبذا أنتم ... من غير ما جرم ولا مأثم

والله قد أنزل في وحيه ... مبينًا في آيه المحكم

من يقتل النفس كذا ظالما ... ولم يقدها نفسه يظلم

وأنت ثأري فتلافي دمي ... ثم اجعليه نعمة تنعمي

<<  <  ج: ص:  >  >>