وتأمل هذه الصناعة العظيمة الافتنان في قول حازم القرطاجني من مقصورته:
سمعي رماني ولساني قبله ... في لجج الأهواء فيما قد رمى
لو كان الحظ دون لفظ لم يكن ... يصلى من الأشجان قلبي ما أصطلي
أي إذا نظرت العين الحسن فعشقته فإن معاني ذلك عبارة عن ألفاظ يسمعها السمع وما سمعها السمع إلا بعد أن نطقها اللسان. وكأن ههنا دقيقة عقلية فحواها أن كل خطرات المرء وأفكاره تدور في نطاق اللغة، الإنسان تفكيره كله كلمات وحروف:
فلم أخذت الطرف مني بالذي ... جر على القلب اللسان وجنى
لا تظلمي إنسان عيني في الهوى ... فليس للإنسان إلا ما سعى
ولو كان قال: أن ليس للإنسان ما سعى، لكان أقرب إلى صحة الاقتباس والمعنى بذلك مستقيم، وإنما يصح الاقتباس بالواو كما في الآية:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
والضرب الثالث من النسيب هو المغامرة ذات المجازفة البطولية، وهي التي ذكرها امرؤ القيس حيث قال:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا ... علي حراصًا لو يسرون مقتلي
وأغرب الدكتور رطه حسين رحمه الله حين نسب أصل هذا النوع من الغزل إلى عمر بن أبي ربيعة. وهو قديم موغل في القدم. وقد استمر في الشعر مع استمرار عصوره ومذاهبه. وأخذ عناصر منه الإفرنج من طريق إسبانيا والأندلس، وهي التي في شعر الطروبدوريين. ومما يدلك على قدم هذا النوع من الشعر قول عنترة وقد ذكرناه من قبل ووعدنا أن نعود إليه وهو:
يا شاة ما قنصٍ لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم