تأمل قوله (نشاصًا من شبابهما) وانظر شدة شبهه باستعارات أبي تمام وأصحاب البديع من بعد. النشاص السحاب الأبيض وهو أول ما يجتمع من سحاب المزن مرتفعًا بعض فوق بعض.
لا يعجبان بقول الناس عن عرضٍ ... ويعجبان بما قالا وما صنعا
وتأمل التعمق النفسي في قول كثير:
وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيرًا سرني وعلمته ... وإن كان شرًّا لم تلمني اللوائم
وما ذكرتك النفس إلا تفرقت ... فريقين منها عاذرٌ لي ولائم
شعر كثير وجميل وعمر والأحوص وجيلهم من أمصار الحجاز أيام الصدر الأول فيه هم المنحى الفكري المثقف. والغالب على الآخذين بدرسه أن يكتفوا بقسمته إلى عذري وجنسي وحواري وتقريري أو أشياء من هذا المنحى ويغفلون عن جانب غلبة صناعة الفكر والفن عليه وهي بالنسبة إليه أصل وجميل وعمر كانا يمثلان ذروة التبريز في مذهبين من هذه الصناعة- مذهب الحنين وحديث الشوق والغرام وزاد فيه جميل على الصناعة صدق الصبابة وسلاسة الطبع والانفعال ومذهب حديث النساء ولهوهن والمغامرة إليهن وزاد عمر بالظرف وتمثيل أحوال مجتمعه ولا سيما جانبه المؤنث بدقة وحذق وحضارة أسلوب.
وكان كثير شاعرًا فحلًا، غير أنه قصر عن ذروة جميل في مذهب الصبابة، لحرارة أنفاس هذا وصدقه وقصر عن ذروة عمر في مذهب المؤانسات لا سماح طبع هذا وانسياب حلاوة ظرفه وشيطنته وقصصه وزاد عليهما باستقصاء المعاني وتعمقها تعمقًا مذهلًا. ومع هذا لم يجسر على بعض ما جسرا عليه مما يدخل في أعماق أغوار التأملات النفسية مثل قول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى .... وفي الغر من أنيابها بالقوادح