للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا مي ويحك أنجزي الموعودا ... وارعي بذاك أمانة وعهودا

ونرى كلامك لو ينال بغرة ... ودنو دارك لو علمت خلودا

نام الخلي وما رقدت لحبكم ... ليل التمام تقلبًا وسهودا

في شعر جرير من طابع زمانه ذكر الحدود والغيرة وبعض ظرف الحديث وفكاهته. هذا من مذهبه اختفى في نهجي أبي تمام البحتري. البحتري أقرب إلى نفسه. وأخذ أبي تمام من طريقته مخالطه بديعه ذو العقد الكثيرات والأخذ الدقيق من ذي الرمة وغيره من الشعراء. ألح البحتري على نفثات اللوعة وذكر المواضع ليزيدها وقد نبهنا إلى هذا من مذهبه عند الحديث عن التكرار المحض في الجزء الثاني.

على أن حلاوة جرير وفكاهة ظرفه لا تفثأ من حرارة عاطفته شيئًا. بل لعلها نوع من استراحة فنية يستريح به منها كما هي أيضًا لا تخلو من معنى التقية. وأحسب أن كلردج لوقد كان زعم أن الشعراء المحسنين مما يستريحون من مواضع قوة الانفعال إلى ضروب من التلهية الفنية يجعلون ذلك بمنزلة الفواصل لكان لمذهبه الذي قال به في «الشعر والمنظومة» (راجع قبله) وجه ما. على أن التطويل في منظومات الإفرنج ومن اقتدوا بهم كان من بعض ما دعاه إلى هذه المقالة كما قدمنا.

خذ قوله:

ألا ترى العين يوم البين إذ ذرفت ... هاجت عليك ذوي ضغن وحساد

حلأتنا عن قراح المزن في رصفٍ ... لو شئت روى غليل الهائم الصادي

حلأتنا أي منعتنا الماء وعني تقبيلها، وكانت شعراء الجاهلية تشبه حلاوة الثغر في التقبيل بالسلافة تمزج بالعسل والثلج والماء. ولكن جريرًا ههنا يكتفي بالماء، ويجعله ماء جاريًّا على رصف من الحصى، ليدل على برده ونقائه. وجعل للتقبيل ما لمثل هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>