ولكن على مذهب من التغني والترنم والشجن الفني الجريري المعدن. وهذا هو الذي صار من بعد بصفائه وحرارته منهجًا لمداح الرسول عليه الصلاة والسلام في مدائحهم، كقول البوصيري في أول البردة:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ ... وأومض البرق في الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت أكففاهمتا ... وما لقلبك إن قلت استفق يهم
أيحسب الصب أن الحب منكتم ... ما بين منسجم منه ومضطرم
وكيف تكتم حبًّا بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم
لفظ الشهادة والعدول مستعار من الفقه ومن واقع حياة الناس آنئذ والاستعارة على صناعتها سلسلة، وفيها بساطة مذهب العلماء -كأن الشاعر لا يقول شعرًا ولكن يتكلم لغتهم- ولأبي الطيب وللمعري إحسان لا ينكر في هذا الضرب من الأسلوب وأصله أقدم من ذلك:
وأثبت الوجد خطى عبرةٍ وضنًى ... مثل البهار على خديك والعنم
وقال عبد الرحيم البرعي:
فؤادي بربع الظاعنين أسير ... يقيم على آثارهم وأسير
أحن إذا غنت حمائم شعبهم ... وينزع قلبي نحو ويطير
فيا ليت شعري عن محاجر حاجر ... وعن أثلاث روضهن نضير
وعن عذبات البان يلعبن بالضحا ... عليهن كاسيات النعيم تدور
ومن لي بأن أروي من الشعب شربة ... واشهد تلك الأرض وهي مطير
واسمع في سفح البشام عشية ... بكاء حمامات لهن هدير
أحيباب قلبي هل سواكم لعلتي ... طبيب بداء العاشقين خبير
فجودوا بوصل فالزمان مفرق ... وأكثر عمر العاشقين قصير