للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"وهي من الوزن المضمر" من قبيل الاتفاق. فقد كان الرجل موسيقيًا حريصًا على أن يستحدث في العربية نوعًا جديدًا من الغناء. وما إخاله إلا قد استعرض كل ما يعرفه من الشعر الغزلي في سائر البحور، فلم يجد منه ما يستقيم على نوع الغناء الجديد الذي يهم به إلا هذا الوزن المضمر. ولا يقدح في هذا أن المغنين بعده. راضوا جميع أبحر الشعر على الغناء فالمجدد دائمًا يختار أبسط الأشياء وأهونها وما يرى الكلفة فيه يسيرة.

والكامل الأحذ والمضمر يشبهان السريع بنوعيه الثاني والثالث، في أنهما ينفران كل النفور من الأسلوب الفخم الجليل (١)، ويخالف الكامل السريع في أنه ألين منه نغمًا وأظهر دندنة. وقد ذكرنا آنفًا أن السريع الثاني والثالث يصلحان للكلام المذهوب به مذهب الخطب والتكرار حتى ولو كان عبثًا كما في رسالة ابن أبي ربيعة لكلثم، وكما في خطبة الوضاح لصاحبته. فالكامل الأحذ والمضمر يجفوان شيئًا عن


(١) وسوى هذا فإن بين الكامل الأحذ "وسنطلق هذا اللفظ هنا للتخفيف على كلا البحرين الأحذ والأحذ المضمر" والسريع "ثانية وثالثة" شبها في التفعيلات لا يخفى. خذ عجز السريع الثالث من قول ابن الأسلت "مهلا فقد أبلغت أسماعي" فإن هذا كالكامل الأحذ المضمر - والفرق الوحيد أن عجز السريع الثالث لا يجيء فيه "متفاعلن" كما يجيء في عجز الكامل الأحذ. والحقيقة أن الأصلين المنتزع منهما الكامل الأحذ والسريع متشابهان جدًا - فالكامل الأحذ منتزع من بحر الكامل التام والسريع منتزع من الرجز التام - والرجز التام ما هو إلا نتيجة تحوير ضئيل في الكامل التام اسمه الاصطلاحي الإضمار، وطبيعة الرجز حدائية مسترسلة، وطبيعة الكامل ترنمية بجلجلة، فهذا يفسر لنا سر اختلاف ما بين الكامل الأحذ والسريع .. ومما يحسن ذكره هنا أن العرب قد اخترعت بحرًا وسطًا بين الكامل الأحذ والسريع، وهو الذي في ميمية المرقش:
هل بالديار أن تجيب صمم
وفي لامية الأعشى "أقصر فكل طالب سيمل -ديوانه- ١٨٩" وقد تحاشاه المتأخرون لأنهم فقدوا السر الذي يرمز إليه وزنه وصار في أسماعهم كأنه نغم مشوش.

<<  <  ج: ص:  >  >>