للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والوصف. وإلى هذا الجانب من عمل غيلان فطن أبو تمام وأبو العلاء وكأن إشارتهما إليه نوع من الاتباع لمذهبه، وذلك كما ذكرنا من قبل حيث قال الأول:

ما ربع مية معمورًا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب

وحيث قال ثانيهما:

وإني تيممت العراق لغير ما ... تيممه غيلان عند بلال

ومما يعجبني من شعر ذي الرمة وشعره كله معجب، قوله:

وتيهاء تودي بين أسقاطها الصبا ... عليها من الظلماء جل وخندق

أي صحراء تهلك ربح الصبا بين أطرافها عليها كساء من الظلماء ضاف. وقد جسد ذو الرمة التيهاء فجعل عليها كساء ككساء الفرس وهو الجل بضم الجيم وفتحها، لغتان، ثم جعلها كالحصن دونها من الظلماء خندق- وهي مكسوة كساء الفرس من أداة الحرب ومخندق عليها والخندق من أداة الحرب. ولا أشك أن استعارته الجل ليكسو به الصحراء من قول امرئ القيس «فقلت له لما تمطى بصلبه» حيث جعل الليل كالبعير ومن قوله «وليل كموج البحر أرخى سدوله البيت» حيث جعل لليل سدولًا وهي من نوع الثياب وجعله بحرًا. والأخذ الذي أخذه ذو الرمة خفي جدًّا. والصورة التي انتزعها من الفروسية والحرب بارعة.

غللت المهارى بينها كل ليلةٍ ... وبين الدجى حتى أراها تمزق

وهذه متابعة منه لصورة الكساء. فجعل سيره وسراه ليلًا في الصحراء التي عليها جلٌّ من الظلام وخندق كالانغلال بين سطح الصحراء وبين هذا الكساء الذي يكسوها حتى يتمزق الكساء بهذا الانغلال. وتمزق الكساء -وهو الدجى- معناه طلوع الفجر بعمود ضوئه وخطوط شفقه وحمرته التي كالدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>